تركي الدخيل
TT

كيفَ تَصنعُ فِكرةً؟

صُنّاع الأفكارِ المبتكرة، اللافتة، المختلفة، تلك التي لا تخطُرُ على أذهانِ معظمِ الناسِ؛ أكثر البشر إبداعاً. ولا غَروَ فالأفكارُ أساسُ المَعارِفِ، وعِمادُ العُلُومِ.
كم من فِكرةٍ غَيَّرت الحياةَ، فَسَهَّلت وعورتَها، ويَسَّرتْ صعوبتَها، وقَرَّبَت البَعيد، وأُدرِكَت بها عزيزاتُ الأماني، ودَنَتْ بها طيباتُ المَعَانِي؟
ناهيكَ عن الأفكارِ التي تُحَرِّضُ العقولَ، وتُوقِدُ الأذهان، وتُطرِبُ الخواطرَ، وتُسعِدُ النُّفُوسَ، وتُحَفِّزُ الإبداعَ، وتُشِيعُ الجَمَالَ، وتُواصِلُ الإِلهام.
ولمحاولةِ الوقوفِ على بعض أسرارِ الفكرة، وطرائقِ صناعتِها، يَحسُنُ البدءُ بتعريفِها.
عندَ الخليلِ بن أحمد: «الفِكرُ: اسم التَفَكُّر. فَكَّرَ في أمره وتَفَكَّر»، و«الفكرة: إِعْمَال الخاطر فِي الشّيء». وفي «مختار الصِّحاح»: «(التَّفَكُّرُ) التَّأَمُّلُ، وَالاسْمُ (الْفِكْرُ) وَ(الْفِكْرَةُ)». قال الراغبُ الأصفهاني: «الْفِكْرُ مَقْلُوبٌ عَنِ الْفَرْكِ، لَكِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ فَرْكُ الْأُمُورِ وَبَحْثُهَا طَلَباً لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهَا».
«معجم اللغة العربية المعاصرة»، قال إن الفكرة: «صورة ذهنيّة لأمر ما، رأيٌ، نظرٌ، انطباعٌ (...) ما يجول في الخاطر، وجهة نظر، رأي خاص، خَاطِرة». والفكرةُ في الأدب، وفقاً لخليل هنداوي: «نظرةٌ خُلقيَّة أو اجتماعية، يُراد تفسيرها وتحليلها، وقد تكون مثلاً سائراً، أو بيتاً من الشعر، جارياً مجرى المثل، أو قصة ترمز إلى غاية...».
ومن اللطيف إشارة ابن المعتز (ت 296 هـ/861م)، للفكرة عندمَا اعتبرَ الكلامَ البديعَ: «هو استعارةُ الكلمة، لشيء لم يُعرف بها، من شيءٍ قد عُرِف بها؛ (...) مثل قول القائل: (الفكرة مُخُّ العمل)، فلو كانَ قال: (لُبُّ العملِ)، لم يكن بديعاً». فالفكرةُ روحُ تدبيرِ العمل.
وعلى أهمية الكلمات والألفاظ، إلا أنَّها لا تقوم مهما ارتقت، من دون الاستناد إلى أفكار، تُصنعُ بها المعاني. ولذلك أوصَى مؤسسُ عِلم البلاغة؛ بِشر بنُ المعتمر (ت 210 هـ)، من يَتَحَرَّى خلقَ بديعِ الأفكار، فقال: «خُذْ من نَفسِكَ سَاعةَ نشاطِك، وفراغ بالكَ، وإجابتها إيَّاك؛ فإنَّ قليلَ تلك الساعة أكرَمُ جَوهَراً، وأشرفُ حسباً، وأحسنُ في الأسماع، وأحلَى في الصُّدُور، وأسلمُ من فاحش الخطأ، وأجلَبُ لكل عَينٍ وغُرَّة: من لفظٍ شريف، ومعنى بديع... ومن أراد معنًى كريماً فَليَلتمس له لفظاً كريماً، فإن حقَّ المعنى الشريف؛ اللفظُ الشريف»، داعياً: «أن يكون لفظكَ رَشِيقاً عَذباً، وفَخمَاً سَهلاً، ويكون مَعنَاكَ ظَاهِراً مَكشوفَاً، وقَرِيباً مَعروفاً».
وإذا عاندَتْكَ الفكرةُ، فاستعصَى عليك التقاطُ معناها، أو عَزَّ اختيارُ جميل مبناها، فيحذرك ابن المعتمر: «لا تَعجَلْ ولا تَضجَرْ، ودَعْهُ بيَاضَ يومِك، أو سَوادَ ليلِك، وعَاوِدْهُ عِند نَشَاطِكَ وفَرَاغِ بَالِك، فإِنَّكَ لا تُعدَم الإجابة وَالمُواتاة... فإنَّ النفوسَ لا تَجُودُ بِمكنُونِها مَعَ الرَّغبَة، ولا تسمح بِمخزونِها مع الرَّهبَة، كما تجُودُ به مع المَحَبَّةِ والشَّهوَة».
ألمْ يقلْ برناردشو: «يمكنك أنْ تعملَ 8 ساعاتٍ يومياً من أجلِ الراتب، و10 ساعاتٍ من أجلِ المديرِ الجيّد، و24 ساعةً من أجلِ فكرةٍ تؤمنُ بها»؟!
إنَّ الأفكارَ الجميلة، لا تهطلُ عليكَ عادةً، عندما تقرر إنتاجَها، ولا حين ترغَبُ في صناعتها، بل تُباغِتُك وأنتَ تقودُ سيارتَك، أو حين تستحمُّ صباحاً، وربما خَامَرَتكَ، وأنت تقفُ في صفوف انتظارٍ ما... إنَّها الخاطرةُ التي تطيرُ من الذِّهنِ، إذا لم تُسارع فتسجلها صوتياً، أو تدوّنها كتابياً!
قال بعضهم:
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه
قَيِّد صيودَك بالحبال الواثقهْ
فَمِنَ الحماقةِ أنْ تصيدَ غزالةً
وتتركَها بينَ الخلائقِ طالقهْ
فإذا دونتَ الفكرةَ في مهدها، عُد إليها بعد فترة، فَشَذِّبها ونَقِّحها، أضف واحذف، وحَوِّلها من مسودة إلى مبيضة، كما قال الشاعر:
قيِّد بِخَطِّكَ ما أَبدَاهُ فِكرُكَ مِنْ
نتائج تُعجِبُ الحُذَّاقَ الفُضَلا
وهذا ما يؤكده شكيب أرسلان، في كتابه «شوقي: صداقة أربعين سنة»، إذ يقول: «نفوسُ الأدباءِ لها أوقاتُ صَفْوٍ وأوقاتُ كَدَر، وإنَّها في أوقاتِ الصفاءِ قد تُبْرِم قوانين، وتخلُقُ معانيَ، لا تتأتَّى لها في جميعِ الأحايين. وربَّما لاحَ في فكرِ الأديبِ خاطرٌ في إحدَى السُّوَيْعات، لو استرسَلَ فيه لَأتَى فيه بالعجائب، على حينِ أنَّه إذَا نشدَه في وقتٍ آخر، وحاولَ أنْ يستأنفَ ما كانَ يلوحُ له في ساعةِ الصفاء، لوجدَ زَنْدَه فيه صَلداً، ورَأى أنَّه يهيبُ بتلك الخواطرِ السابقةِ فلا تُجيبُه، ويطمعُ أن يقتنصَ تلك الشواردَ التي كانتْ بين يديه، فإذا هي الآن لا تُطِيعه (...) ولذلك كانَ يجبُ على الأديب شفَّافِ الطبع، إذا عَنَّ له في سُوَيْعات الصفاءِ معنًى مُبتكَرٌ، أو خاطرٌ شريفٌ، ووجدَ هذا الموضوعَ مُنثالاً عليه، أنْ يُسرِعَ إلى قَيْد أوابِده، ويأخذَ القلمَ فيحرِّرُه، وإذا كانَ شعراً نظمَه، وإذا كانَ نثراً دبَّجَه، حتى لا يفوته فيما بعدُ؛ فإنَّ الأفكارَ من جملةِ حظوظِ الدنيا، تَهبُّ أحياناً وترْكدُ أحياناً، فإذا هَبَّت مرة، وجبَ اغتنامُها، ولم يَجُزْ إهمالُها(...) إنَّ الأفكارَ نظير الأقدار، ليس في مقدورِ الكاتبِ أو الشاعرِ أن يُجِيدَها كلَّ حين، وقد تفيض على الرؤوس أشعَّة إذا ولَّت تعذَّر استردادُها. فاللَّبِيب اللَّبِيب هو الذي يقتنصُ الشارِدة لأوَّل سنوحِها، ولا يدعُها تذهب على أمَلِ أن يصطادَها فيما بعد، فإنَّها إذا شردتْ قد تفوت، والفَلاة طويلة عريضة، فلا يُحِيط بها الصائدُ، ولا تُطوَى له كيف يشاء. وقد كان شوقي ممَّن يُقيِّد الشواردَ، ولا يَدَعُها تفوت، وممَّن يقف في المَظَانِّ التي تختلف فيها الطرائد، فكلَّما عَنَّ سَانِحٌ رمى بسهمِه، فلهذا عَظُمُ توفيقُه في الصيد، وجاءَ بما لم يجئْ به غيرُه (...) فكانَ المعنى المُبتكَرُ، هدفاً له كيفما عَنَّ، وأَنَّى عرض...».
إنَّ الخواطرَ اللامعة بناتُ الأفكار، واقتناصها حين ورودِها بالتسجيل، يحفظها ويرعاها وينبتُها منبتاً حسناً، فتخرج شعراً ونثراً وألواناً تزيّنُ الدنيا، وتلهمُ الناس. وبين الفكرةِ، وتقييدها، ثم تنفيذها بدافع الإلهام، دروبٌ متعرّجة، طويلة الذهاب والإياب، ولكنّ المتنبي طواها في بيتٍ مُبدع، بقوله:
وكَفَتْكَ التّجارِبُ الفِكْرَ حتى
قَدْ كَفاكَ التّجارِبَ الإلْهَامُ
فقد جربت أنواع التجارب وخبرتها، فلا تحتاج بخبرتك إلى التعرف عليها، فألهمَك اللهُ الحق، فلا حاجةَ بعد ذلك إلى إلهام التجربة. والثقةُ بالنفس مثمرةٌ، لكنَّ طغيانَها، قد يُفضِي للتيه، وقانَا اللهُ وإيَّاكم دوبَه.