جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

أراها فرصة العرب

وسط دردشة مع أحد الأصدقاء العرب المخضرمين في الصحافة والسياسة حول الحرب الروسية – الأوكرانية، سألني صديقي: هل تعتقد أن هذه الحرب فرصة للعرب؟ وما الدروس المستفادة لنا نحن العرب في هذا التوقيت الصعب الذي يمر به العالم؟ وكيف ترى الحراك العربي - العربي الدائر الآن؟ وهل يمكن للعرب تشكيل تكتل يجابه التكتلات الدولية؟ وما مَواطن القوى النسبية للوزن العربي في ظل نظام عالمي جديد يدق الأبواب؟ وأين يقف العرب في هذه المرحلة المهمة من عمر التاريخ؟
قلت له: قطار العالم الجديد تحرك من بلاد ستالين، ولا أحد يعرف عند أي المحطات سيتوقف، أوروبا العجوز تشعر بالإهانة من عجزها أمام الشتاء القارس الذي بات مهدداً بعدم القدرة على تدفئة شعبه. الولايات المتحدة الأميركية لا يهمها سوى أن تظل واشنطن قِبلة الشرق والغرب.
روسيا «البوتينية» تعرف جيداً أن الحرب لعبة صفرية، وأنها باتت جاهزة للقفز من النظام الدولي الحالي. نحن أمام صراع دولي متلاحق. تكتلات جديدة يتم تأسيسها. سباق النفوذ والقوة يتم وفق التوقيت «السيبراني». نحن العرب لسنا طرفاً في هذه الحرب، لكنّ عين العاصفة لن تكون رحيمة هذه المرة بخرائط المنطقة العربية التي تصدعت اقتصادياً تارةً بتداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية، وتارةً بسبب جائحة «كورونا»، وتارةً أخرى جراء آثار فواتير الفوضى والتمزيق التي خلّفتها أحداث ما يسمى الربيع العربي. الشرق الأوسط والإقليم والمنطقة العربية ليست بعيدة عن تصفية الحسابات الغربية مع التاريخ، ورغم ذلك أرى أن هذه العاصفة العالمية تمثل فرصة عربية وكبيرة، بل ربما يصعب تكرارها، فإذا قلنا إن أوروبا منشأ ونقطة انطلاق الصناعة، فبكل يقين نقول إن العرب موطن الحضارة والأديان المقدسة، ولديهم المقدرة والميراث اللذان يمكّنانهم من الدخول في هذا السباق العالمي الجديد، بل الجلوس في مقاعد متقدمة، والانخراط في التفاعلات الدولية الدائرة بما يحقق مصالحهم.
14 مليون كيلومتر مربع، نفوذ عربي جيوسياسي استراتيجي، هذه عناصر تمثل قيمة مضافة للعرب على صعيد القوى النسبية للوزن العربي في ظل هذه المتغيرات العالمية؛ وهو ما يعزز من قيمة ومعنى الاكتفاء السياسي، أما على صعيد الاكتفاء الغذائي فنحن أمام الدرس الرئيسي في اختبار النظام العالمي الجديد، اجتيازه ليس صعباً. بالإرادة والعزيمة تتلاشى الحواجز، وتمتد جسور الطرق، والسكك الحديدية، وتنتعش حركة التجارة البينية دون أي عقبات بين العواصم العربية وبعضها، أيضاً لا بد من التأسيس لشراكات وأسواق كبرى، تحقق الاكتفاء الذاتي للشعوب العربية بما يحقق الاستقرار، ويحفظ الأمن الغذائي. الفرصة ذهبية أمام نفوذ عربي يستند إلى مكتسبات وامتيازات يؤكدها التوقيت. العالم يدرك جيداً القيمة النسبية الحقيقية للوزن العربي في معادلات الحسابات الدولية التي تقول إن العرب لديهم الكثير من الأوراق والموارد التي يمكن الاستفادة منها في هذه الأزمة، فعلى سبيل المثال، لو توقفنا أمام ورقة الطاقة التي تمثل جوهر التحكم في حسابات إعادة ترتيب الأوراق الدولية، سنجد أن العالم يراهن على أن حل المشكلة في يد الدول العربية، وهذه نقطة مركزية إذا ما أُحسن استثمارها جيداَ من العرب.
ما يدعو للتفاؤل في المشهد العربي الحالي، تلك التحركات المكثفة التي تشهدها المنطقة من قمم ولقاءات وتبادل الزيارات وتوافق والتقاء وتطابق في وجهات النظر حول المتغيرات والتحديات التي تمر بها المنطقة والإقليم، تحركات تطوي صفحات الماضي الشائكة، وتفتح مسارات السلام والحوار؛ الأمر الذي يعكس تقدير موقف صحيحاً لماهية المخاطر، ويؤكد صواب المسارات العربية في استعادة اللُّحمة والتماسك، وإدراك وحدة المصير، وخطورة الفُرقة والخلافات، ومن ثَم فإن التوقيت مناسب لترجمة كل هذا الحراك العربي إلى واقع ملموس، وقوى وازنة في الإقليم والعالم.
الدروس وعبر التاريخ تقول إن الغلبة لن تكون في النهاية إلا للأمم القوية الغنية المتقدمة، العرب يدركون ذلك، ومن ثَم نلحظ أن هناك خطاباً سياسياً عربياً يحمل رسائل مستقبلية من أجل استقراره، وتحقيق مصالحه، والحفاظ على أمنه القومي، وقطع الطريق أمام أي زلازل اقتصادية، المنطقة لم تعد تحتمل مزيداً من الضربات. بعض العواصم العربية لا تزال رهن أجهزة الأكسجين السياسي والاقتصادي. التوقيت مناسب للخلاص من الانسداد السياسي في شرايين الوحدة والتماسك العربي. الضرورة الوجودية تمنحنا فرصة تحديد المكان والمكانة العربية. هذا الكلام ليس مستحيلاً، وليس حلماً صعب المنال. كل شواهد الأزمة العالمية تقود إلى آفاق هذا المشروع العربي. القوى العالمية الكبرى منخرطة في صراعاتها ومصالحها الخاصة. آن للعرب كتابة المستقبل بتوقيتهم، وبناء المزيد من جسور الثقة الاستثنائية التي تقود إلى تعاون اقتصادي، وفي المقام الأول ملفا الطاقة والغذاء بما يحقق استقلالية الاكتفاء الذاتي للشعوب العربية.
البقاء لمن يمتلك الذكاء الاستراتيجي، وفطنة التكتيك. دروس الماضي وتحديات الحاضر يجب أن تكون حافزاً إجبارياً لخريطة طريق مستقبل الوجود العربي.