ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

«غبقة» رمضانية: الطعام سفير النيات الحسنة

من العادات الرمضانية القديمة، التي نفتقدها اليوم؛ تبادل الأطباق بين الجيران. في حارتنا القديمة، كانت السفرة الرمضانية تتلون بالأطباق التي يرسلها الناس من حولنا، كل طبقٍ يمثل نكهة ومذاقاً وأسلوب حياة. كل طبقٍ كان يسرد حكاية ويروي قصة، تعكس ليس فقط فنون الطهي ونكهاته، ولكن الأهم؛ بساطته وقدرته على ربط البيوت ببعضها، فقد كانت تلك الأطباق تلعب دور سفير النيات الحسنة.
طالما ارتبط الطعام بالثقافة. بل بالإنسانية والتحضر. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن يطور نظامه الغذائي، لولا ذلك لبقي في الأدغال والغابات والكهوف. لقد ارتبط غذاؤه بطريقة معيشته وبسلوكه، منذ القدم؛ كلما هذب الإنسان طريقته في تناول الطعام كلما تهذب سلوكه، وطريقة تفكيره. البداية كانت مع اكتشاف النار. لقد اكتشف الإنسان الأول التحكم في النار وتسخيرها، هذه كانت أهم الاكتشافات التي غيرت مجرى التاريخ البشري، هي نقطة التحول التدريجي نحو التحضر، وبداية الخروج من البدائية، نحو تكوين الوعي الثقافي الإنساني، وأنسنة الإنسان وابتعاده عن الهمجية. قبل النار كان الإنسان يأكل اللحم كغريزة، وبعدها أصبح يتناول اللحم كشهوة، قبلها كان ينقض على فريسته ويمزقها كمفترس، وبعد اكتشاف النار أصبح يأكل اللحم بمذاق ورغبة وشهوة. هذه درجة من البناء الثقافي للإنسان، النار هي أولى عتبات السلم نحو الحضارة، في كتابه «قصة الحضارة»، يقول وول ديورانت: «لئن بدأت إنسانية الإنسان بالكلام، وبدأت المدينة بالزراعة، فقدت بدأت الصناعة بالنار».
فيما بعد، مثل الطعام المرآة التي تظهر عادات الشعوب وثقافتها، وكلما ارتقى الإنسان كان الطعام بالنسبة إليه أكثر من رغبة في الإشباع، بل وسيلة للمتعة واللذة. وأصبح الطعام أحد معايير التحضر. ومثل الطعام لغة جديدة للتقارب بين الشعوب. هذا ما أفهمه (مثلاً) من مضمون الآية «وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكمْ حل لهم»، ففي حين انشغل الفقهاء بالأحكام الفقهية، غاب فقه التعايش الذي يبرز أمامنا كواحد من مقاصد التشريع. الطعام هنا عنوانٌ للتقارب بين الناس، حد ترسيخ التجاور والتزاور وبناء نظام اجتماعي مشترك يعتمد كل طرف على الآخر، ومعه تنشأ روابط الثقة والتسامح والإخاء؛ ندخل بيوتهم ويدخلون بيوتنا، نأكلُ من أطباقهم ويأكلون من أطباقنا.
والطعام أيضاً يمثل جانباً من الرفاهية التي يتطلع إليها الإنسان، ويمكن أن يصبح تقليداً ثقافياً راقياً، في الأندلس القديمة، ابتكر الموسيقي أبو الحسن علي بن نافع الموصلي «زرياب» فن الذوق العام، أو ما يسمى اليوم «الإتيكيت»، كما ابتكر فنون الأزياء، والعطور، ووضع أول «مينيو» معتمد للطعام؛ فكانت أول قائمة طعام معتمدة ومختومة بختم الخليفة أعدها زرياب في الأندلس، كما علم الإسبان طريقة تقديم الطعام وتنظيم السفرة، وابتكر مجموعة متنوعة من الأطباق، وصنع لهم الملاعق والشوك والسكاكين، وجلب لهم أواني الزجاج الملون لتعطي للمائدة رونقاً متميزاً، كما أحضر وصفات في الطعام تبدأ من الحساء والمقبلات وتنتهي بتناول الحلويات والقطائف.
قديماً كانت النساء في حارتنا يتجمعن في ليالي رمضان قبيل منتصف الليل، تحضر كل واحدة ما فاض من أطباق السفرة... ويستعرضن بشكل فلكلوري أشكال وأصناف الوجبات الرمضانية المتنوعة، وعلى مذاق تلك الأطباق تدور الحكايا والسواليف... فيما بات يعرف باسم «الغبقة».