د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

تحديات إدارة الصراع في أوكرانيا

واحدة من أهم نتائج الحرب في أوكرانيا رغم عدم وصولها إلى نقطة النهاية بعد، هي أن العالم عليه أن يفكر بطريقة مغايرة عما اعتاد عليه قبل الحرب، وأن ينتظر العديد من الظواهر والمشكلات التي لم يواجهها من قبل. فالطريق يبدو معبداً لحالة استقطاب دولي مريرة أكثر تعقيداً من تلك التي عرفها العالم أثناء المواجهة بين الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو والغرب من جانب، وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر. كما تبدو الطريقة التي يُدار بها الصراع في أوكرانيا، وحجم الأطراف المتورطة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مؤشراً على أن أي تسوية سياسية ستظل معرضة للكثير من الاختبارات الكبرى.
تدور الأهداف الغربية المعلنة حول إفشال العملية العسكرية الروسية تماماً، وعزل روسيا دولياً وتركيع اقتصادها وفق تصريحات وزير المالية الفرنسي، والتأثير على شعبية الرئيس بوتين وربما دفع بعض المحيطين به إلى التمرد عليه وعزله وإنهاء حكمه، كما يتصور الرئيس بايدن.
اعتمد الموقف الغربي على أربعة مسارات رئيسية لتحقيق أهدافه آنفة الذكر؛ وهي توقيع مجموعة من العقوبات الاقتصادية والمالية التي تعصف بالاقتصاد الروسي وتفرض كمّاً كبيراً من التعقيدات على حياة الروس اليومية، وثانياً المشاركة العسكرية من خلال تزويد أوكرانيا بأنواع من الأسلحة الفتاكة لدعم مقاومتها للقوات الروسية، ومدّها بالمعلومات اليومية عن تحركات القوات الروسية، وربط ذلك، كما في التقارير اليومية للاستخبارات البريطانية ووزارة الدفاع الأميركية، بما يصفونه فشل العملية العسكرية الروسية رغم ما تحققه من تدمير هائل للبنية العسكرية الأوكرانية واحتلال مساحات واسعة من الأرض في شرق أوكرانيا، والتركيز على فقدان القوات الروسية للعديد من المعدات والكثير من القتلى، وبطولة المقاومة الأوكرانية، وسوء تقديرات الرئيس بوتين وقياداته العسكرية. ولا يخفى أن الكثير من تلك التقارير اليومية البريطانية والأميركية مُصاغة لأغراض دعائية ولإحداث تأثير نفسي على طرفي الحرب، إلى جانب معلومات ميدانية بعضها مُعلن من قبل المصادر الروسية.
المسار الثالث يتعلق بالدعاية السياسية، والتي تعكس هيمنة وسائل الإعلام الغربية بشكل عام، مقابل ضعف الوسائل الإعلامية الروسية. وتركز الدعاية الغربية على ما يمكن وصفه بشيطنة القيادة الروسية، والزعم بفقدان التركيز والعزلة عن المستشارين وخداع بعضهم له من خلال حجب المعلومات الحقيقية، والتخبط في القرارات. وهي حرب دعائية مفهومة في إطار الصراع مع قوة يعتبرها الغرب متمردة على النظام الدولي، ويجب ضربها في الصميم، وتصوير قيادتها بالعجز عن استيعاب ما يجري حولها، والتسبب في مصائب كونية. وبالتالي فإن إبعادها عن المشهد السياسي الدولي يُعد هدفاً مشروعاً.
المسار الرابع يتعلق بالتحرك السياسي، ويدور حول مسارين فرعيين، أولهما عدم الاكتراث الكافي بالمفاوضات التي تُجرى بين الوفدين الروسي والأوكراني، والتشكيك في نتائجها مسبقاً، ودفع المفاوض الأوكراني إلى التشدد ورفض المطالب الروسية قدر الإمكان. والفكرة هنا أن توقيع أي اتفاق تقبل به أوكرانيا قد يتضمن بعضاً من المطالب الروسية سوف يُعد انتصاراً للرئيس بوتين، وهذا مرفوض غربياً. الأمر الثاني يتمثل في حشد مزيد من المؤيدين للعقوبات على روسيا، وفك الارتباط بين بعض القوى المهمة كالصين والهند وباكستان وجنوب أفريقيا وغيرهم عن روسيا وتهديدهم بفرض عقوبات عليهم إن تعاونوا مع موسكو في الالتفاف على العقوبات الغربية. جنباً إلى جنب السعي إلى عزل روسيا عن بعض التجمعات الدولية، كمجموعة العشرين، وفرض قيود على أي احتمال لحوار بين موسكو والناتو مستقبلاً.
وعلى هذا النحو تصب المسارات الأربعة في التحرك الغربي في تعزيز الاستقطاب الدولي وخلق محاور متصارعة لا تعرف الحد الأدنى من إمكانية التعايش بين قوى مختلفة، بعضها يمتلك خيار تدمير العالم إن وصلت الأمور إلى حد التهديد الوجودي كما عبرت روسيا عن ذلك صراحة. والتفكير الغربي هو نوع من التفكير المرهون بنظرية المباراة الصفرية التي يستحيل تطبيقها في العالم المعاصر.
مقابل الإدارة الغربية للصراع في أوكرانيا، تجتهد الإدارة الروسية في توظيف كل ما لديها من أوراق اقتصادية وعلاقات دولية ونفوذ سياسي في بعض المناطق الحيوية في العالم، للحد من تأثيرات العقوبات الاقتصادية الغربية، والاستمرار في العملية العسكرية رغم عثراتها وصعوباتها الجمة، والتواصل مع القوى الرئيسية في العالم لضمان حد أدنى من التأييد وعدم التماهي الكامل مع العقوبات الغربية، وتوفير مزايا وتفضيلات في التعاملات التجارية، لا سيما في النفط والغاز والقمح للدول الصديقة.
في سياق المفاوضات مع أوكرانيا، ورغم الصعود والهبوط في المواقف والتقييمات بين يوم وآخر، تُصر روسيا على أمرين؛ عدم وقف إطلاق النار أثناء المفاوضات كوسيلة ضغط على الجانب الآخر للقبول ببعض المطالب الحيوية الروسية التي لا يمكن لروسيا التنازل عنها، كضم القرم ووضع خاص لإقليم دونباس وعدم الالتحاق بالناتو وحياد أوكرانيا المضمون دولياً. والثاني المساومة على طلب الرئيس الأوكراني باللقاء المباشر مع الرئيس بوتين، بحيث يحتمل تحقيقه بعد التوصل إلى اتفاق شامل يحقق مطالب روسيا أو الجزء الأكبر منها، وليس قبل ذلك.
وفي سياق الرد على الضغوط الغربية، يأتي قرار الرئيس بوتين ببيع النفط والغاز للدول غير الصديقة مقابل الروبل، ومصادرة بعض الأصول الغربية في الداخل الروسي مقابل المصادرات الهائلة للأصول الروسية في الدول الغربية، والتي تقدرها بريطانيا بنحو 500 مليار دولار. ويعد تأثير قرار بيع النفط والغاز مقابل الروبل أكبر من مجرد تحسين وضع الروبل مقابل العملات الدولية، رغم الصعوبات في التطبيق، والتي يعمل البنك المركزي الروسي على حلول لها بالاتفاق مع دول صديقة تقبل التعامل بالعملة الوطنية. فإلى جانب الحد من هيمنة الدولار على التجارة الدولية، وإبداع نظام مالي دولي جديد، في حال انتشاره وقبوله بين أكثر من دولة وتعاملات أكثر من سلعة، وبما يساعد على تعزيز مكانة العملات الوطنية مقابل الدولار والعملات الأوروبية الأخرى، ومن ثم خلق وضع اقتصادي دولي مختلف سيكون له آثاره الأخرى على العديد من دور المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الاقتصاد العالمي. ولعل ذلك ما يفسر الانزعاج الأوروبي الأميركي الشديد من القرار وتداعياته الآنية والمستقبلية على السواء، وهم الأكثر احتياجاً الآن وإلى مدى زمني لا يقل عن ثلاثة أعوام، للواردات الروسية من النفط والغاز.
السياقات المختلفة والمتصادمة لأسلوب إدارة الصراع في أوكرانيا، يمثل حرباً بكل المقاييس، حتى ولو لم تعلن الأطراف غير المباشرة قرار الحرب. والواضح أن أي تسوية يُتوصل إليها، لن تكون نهاية المطاف، بل سيظل الصراع قائماً، وإلى مدى أطول، ما لم تحل عقدة قيادة الغرب للنظام الدولي وتطلعات كثيرين لقيادة دولية بديلة.