علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل كان فؤاد زكريا ممتحناً بالعداوة في الكويت؟

المثال الثاني للخفة الصحافية في دراسات ومقالات جابر عصفور، قوله في المقال الذي رثى فيه فؤاد زكريا: «ومن المؤكد أن عقلانية فؤاد زكريا هي التي جعلت منه رمزاً من رموز الاستنارة والدولة المدنية على السواء، فقد وصل دائماً بين العقل والعلم في الكشف عن حقائق الأشياء، ومن ثم التصدي للسلفية الجامدة والاتباع السلبي في الفكر الديني المتخلف الذي ناصبه العداء طيلة إقامته في الكويت».
رحت لأول وهلة أسأل نفسي وأنا أقرأ آخر ما جاء في هذا الاقتباس: لماذا أهل: «الاتباع السلبي في الفكر الديني المتخلف» هم الذين ناصبوا فؤاد زكريا العداء، ولم يناصبه معهم العداء أهل «السلفية الجامدة» مع أنه «تصدى» لهم أيضاً؟!
بعد تأنٍ في قراءته وجدت الإجابة في خطئه النحوي. فبعد كلمة «المتخلف» كان يجب أن يكتب «اللذين ناصباه العداء» لا أن يكتب «الذي ناصبه العداء».
لكن هذا التصحيح اللغوي الذي ساعدني على حل هذه المعضل الإشكالي لم يمنع أسئلة أخرى أشد منها في إعضالها الفلسفي الإشكالي من مراودة ذهني:
من هم أهل «الاتباع السلبي في الفكر الديني المتخلف» في الكويت الذين لم يسمع بهم من قبل مقاله الرثائي إنس ولا جان؟!
وهل لو كان هؤلاء اتبعوا «الفكر الديني المتخلف» اتباعاً إيجابياً لما كانوا امتحنوا فؤاد زكريا بالعداوة طيلة إقامته بالكويت؟!
وهل في حالة كون الفكر الديني غير متخلف، فإن اتباعه اتباعاً سلبياً، هو أمر محمود، لأنه في هذه الحالة سيكون اتباعه على هذا النحو مفيداً ونافعاً أو ربما خلاقاً؟!
وهل كانت مناصبة أهل «السلفية الجامدة» وأهل «الاتباع السلبي في الفكر الديني المتخلف» العداء لفؤاد زكريا طيلة إقامته في الكويت نشأت قبل تصديه لهما أم نشأت بعده؟!
وإن كانت نشأت بعد تصدي فؤاد زكريا لهما، هل كان جابر عصفور ينتظر منهما أن يخصوه بمودتهم ويؤثرونه بإعزازهم؟!
ليس في الاقتباس ما يوحي أن فؤاد زكريا عاش في الكويت طورين: طوراً قبل التصدي وطوراً بعد التصدي. فالطور الذي عاشه هناك طور واحد ناصبه فيه – كما يقول - أهل (السلفية الجامدة) وأهل (الاتباع السلبي في الفكر الديني المتخلف) العداء «طيلة إقامته في الكويت». كما نعرف فإن إقامته في الكويت كانت إقامة طويلة حيث امتدت من عام 1974 إلى عام 1991. وهنا ألح علي هذان السؤالان الأخيران: لماذا لم يعد إلى عمله في جامعة عين شمس في بلده أو غادر الكويت إلى بلد آخر، ليعمل في جامعة من جامعاته؟! هل اعتقد أن العداء المحاصر به في الكويت، ما هو إلا اختبار وامتحان وابتلاء ديني، فقابله بالصبر والاحتساب، توقاً للأجر، وانتظاراً للثواب؟!
لنتجاوز تسميته «الخربوطية»، ونلتفت إلى تسميته الأخرى التي فيها شيء من التحديد.
نعم توجد في الكويت جماعة إسلامية سلفية، وهي التي وصف فكر أهلها بـ«السلفية الجامدة»، لكن هذه الجماعة لم تكن هي الجماعة الإسلامية في الكويت التي ناصبت فؤاد زكريا العداء منذ أن حل بالكويت عام 1974، أستاذاً ورئيساً لقسم الفلسفة في جامعتها.
فهي لم تناصبه العداء في خطبها وفي كتبها وفي مقالاتها وفي نشاطها الميداني حتى بعد تصديه لفكر التيارات الإسلامية التي هي تيار من تياراته.
لم تناصبه العداء، لأنها غير معنية به ولا بسواه من أسماء التيار العلماني في العالم العربي، وأسمائه من أبناء جنسيتها الكويتية. فهي معنية أكثر في ميدان الاختلاف والخصومة والصراع والعداء بمن تسميهم بأهل البدع. وبقضية التعصب المذهبي لأحد المذاهب الفقهية السنية الأربعة.
وكتابة هذه الجماعة في الكويت ردوداً خارج إطار هذين الموضوعين تدخل في حكم النادر.
وهي غير معنية بفؤاد زكريا وبمن أشرت لهم لأنها في غيبة عن فقه الواقع وفي غيبوية عن مستجدات الواقع وفي تيه عن تحديات الحاضر. وهذا تشخيص الإخوان المسلمين لحالها، أعدت صوغه بأسلوب غير منمق وغير ملتوٍ.
ومحل عنايتهم المحوري هو ما يختلف الإخوان المسلمون فيه معهم. وما يختلفون فيه مع الإخوان المسلمين.
ولاحقاً طرأ تغير على نهجهم وطريقتهم، فوسعوا محل عنايتهم، وصاروا يغرفون من موضوعات الثقافة الإسلامية، كما بلورتها الجماعة الإسلامية في القارة الهندية والإخوان المسلمون في الشرق العربي بدءاً من أربعينات القرن الماضي.
إن الذي ناصب العداء لفؤاد زكريا في الكويت هم الإخوان المسلمون. وقد أفصحوا عن عدائهم له في مجلة (المجتمع) التي تصدر عن جمعية الإصلاح الاجتماعي. والإخوان المسلمون في الكويت كانوا ينتمون إلى أكثر من بلد عربي، منها الكويت. والإخوان المسلمون والدينيون عامة في مصر التفتوا إلى اسم فؤاد زكريا بالعداء قبل أن يعار من جامعة عين شمس بالقاهرة إلى جامعة الكويت.
التفتوا إلى اسمه بالعداء بسبب مقاله (معركتنا والتفكير اللاعقلي) المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ 19/11/1973، الذي أردفه بمقال آخر، هو (إلى متى نغترب عن حاضرنا!) المنشور بتاريخ 28/11/1973.
وكتب مقالاً ثالثاً في شهر 12 من ذلك العام في نفس الموضوع بمجلة (الطليعة) المصرية لكن هذه المجلة لم تكن مثل جريدة (الأهرام) يقرأها عامة المصريين فالذين كانوا يقرأونها هم خاصة اليساريين في مصر.
يذكر فؤاد زكريا في خاتمة دراسته (نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة)، أنه تعرض لأوسع هجوم، من الصحف والمجلات وخطباء المساجد، لمجرد أنه تجاسر على القول إن الذي حققوا العبور في حرب 1973، لم يكونوا هم الملائكة، وإنما كانوا جنوداً مدربين تدريباً عصرياً.
وفي حوار أجراه الشاعر حسن طلب معه في مجلة (إبداع) الصادرة في شتاء 2007 قال: «قيل لي إن بعض نواب مجلس الشعب دعوا إلى طردي من الجامعة تملقاً لهذه التيارات الظلامية التي حاولت أن تستغل حرب 73 في نشر أفكارها».
مقاله الأول كان قد كتبه رداً على مقالات شيخ الأزهر عبد الحليم محمود في جريدة (الأهرام) الذي ادعى فيها أن الملائكة قاتلت جنباً إلى جنب مع الجنود المصريين في حرب 73، وادعى أنه لولا مشاركتها في القتال لما كان الجيش المصري انتصر على الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب.
هذه الرواية الغيبية، وروايتان غيبيتان أخريان، وهما: إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم رئي بالعين المجردة في تلك الحرب، وإن الطائرات الإسرائيلية كانت تلقي قنابلها بعيداً عن أهدافها، كانت تحظى بتشجيع حكومي رسمي. مثلما كان الحال في تشجيع حكومة جمال عبد الناصر رواية ظهور السيدة العذراء مريم في 4 مايو (أيار) 1968 فوق قباب كنيسة السيدة العذراء في ضاحية الزيتون بالقاهرة.
الفارق بين الخارقتين السماويتين، الإسلامية والمسيحية المدعيتين، أن الأولى غير مألوفة ومعتادة عند المسلمين، على مستوى رسمي في العصر الحديث إلى عام 1973. ثم أصبحت مألوفة ومعتادة مع الجهاد الأفغاني، إذا كانت خوارقه مسلسلاً أفغانياً طويلاً استمر عرضه لمدة ثماني سنوات، بينما الثانية متوالية ومتكررة، وتاريخها جزء من تاريخ الكنيسة. ومن المفارقة في تاريخها، أعني (تاريخ الظهورات المسيحية) وعلى رأسها (الظهور المريمي) وذرف السيدة العذراء في صورها وتماثيلها لدموعها وانسكاب الزيت من هذه الصور والتماثيل، أن عددها في أوروبا زاد في القرن التاسع عشر، قرن الإلحاد وعدم اللامبالاة بالدين. وأميل إلى أن هذا الملمح الفكري في هذا القرن كان سبب الزيادة. وزاد أكثر في القرن العشرين، قرن الإلحاد الشيوعي، فتأمل!
إن (العجيبة) بالتعبير اللاهوتي المسيحي العربي في الفكر الديني المسيحي وظيفتها الأولى أن تكون إثباتاً على صحة الإيمان المسيحي والتأكيد عليه وتعزيزه أو ادعاء بطلان العقائد الدينية الأخرى. وفي حالات أخرى يراد بها أن تكون برهاناً على صحة دعوى المنشق الديني عن كنيسته.
والفارق الآخر، هو أن التعامل النقدي مع الخارقة السماوية الإسلامية المدعاة أتى من داخل مصر، حيث سمح لفؤاد زكريا أن ينشر مقاله عنها في جريدة الأهرام. في حين أتى التعامل النقدي مع الخارقة السماوية المسيحية المدعاة من خارج مصر، وذلك في كتاب صادق جلال العظم (النقد الذاتي بعد الهزيمة) الصادر عام 1968. لأنه كان من غير المسموح في عهد عبد الناصر لعلماني مسيحي أو مسلم أن ينشر مقالاً ينفي حصولها أو يشكك فيه في حصولها.
عقدت في الكويت ندوة ثقافية كبرى هي ندوة (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) نظمتها جمعية الخريجين بالتعاون مع جامعة الكويت. عقدت ما بين 7 و12 أبريل (نيسان) عام 1974. شارك فؤاد زكريا فيها بكتابة بحث عنوانه (التخلف الفكري وأبعاده الحضارية).
قال فؤاد زكريا في هامش الصفحة الأولى من بحثه هذا: «ظهرت بعض الأفكار الرئيسية في هذا المبحث في صورة موجزة جداً في مقال بجريدة (الأهرام) المصرية بتاريخ 28/11/1973».
المقال الذي يعنيه في هذا الهامش هو مقاله الثاني (إلى متى نغترب عن حاضرنا!). وهذا يعني أنه قد نقل معركته العقلانية في جريدة (الأهرام) المقروءة جماهيرياً في مصر، وفي مجلة (الطليعة) المصرية المقروءة عند خاصة اليساريين المصريين إلى مدار إقليمي عربي نخبوي، في تلك الندوة، مدار ليس قاصراً على مصر.
فؤاد زكريا حينما شارك في بحثه في تلك الندوة الكبرى، كان لا يزال أستاذاً في قسم الفلسفة ورئيساً له في جامعة عين شمس. وفي عامها، عام الندوة، أعير من جامعة عين شمس إلى جامعة الكويت، ليخلف زكي نجيب محمود في منصبه في جامعة الكويت.
جُن جنون الإخوان المسلمين من عقد ندوة (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) في الكويت وزاد جنونهم جنوناً أن الذي ألقى كلمتها الافتتاحية الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح رئيس مجلس الوزراء بالنيابة ووزير الداخلية والدفاع وقتذاك، فشنوا عليها وعلى المشاركين فيها حملة إعلامية ضخمة في أعداد متتالية من مجلة (المجتمع). وفي عدد من هذه الأعداد وصفوا فيها هذه الندوة بأنها مظاهرة ضد الإسلام، تنفق عليها الحكومة الكويتية!!
مجلة (المجتمع) الكويتية منذ إنشائها في مارس (آذار) 1970، هي المجلة الأسبوعية الإسلامية الأوسع انتشاراً عند الإسلاميين في العالم العربي. وكان الذي يحررها ويديرها إخوان مسلمون من أكثر من جنسية عربية.
لا أعلم في أي عام بدأ يكتب فؤاد زكريا في الصحافة الكويتية، فالذي أعلمه أنه كان يكتب في مجلة (العربي) منذ منتصف السبعينات الميلادية.
مع حمأة استعمال مفهوم «الأفكار المستوردة» عند الإسلاميين في محاجاجاتهم الرافضة للأفكار الغربية كتب في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1978، مقالاً نقدياً عن هذا المفهوم، كان عنوانه (ويسألونك عن الأفكار المستوردة). وكان قد سبق له أن عالج هذا الموضوع في مقالين نُشرا في مجلة (الفكر المعاصر)، هما: (نحن وثقافة الغرب – 1965)، و(دفاع عن الثقافة العالمية – 1971).
وطرح سؤالاً نقدياً حول مفهوم (الأفكار المستوردة) بعيداً عن إيمان الإسلاميين به هو بحد ذاته مسألة مستفزة لهم لأنه يمس أطروحة مركزية في تنظيرهم، استهل سيد قطب بها الصفحة الأولى من كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام).
وقبل ذلك مجلة (العربي) التي هي منذ صدورها في عام 1958، تعد مقارنة بمجلات ثقافية عربية، مجلة ثقافية محافظة، كانوا يحيطونها بالشبهات الدينية. لذا كانت مجلة (المجتمع) من أول صدورها قد وضعتها نصب أعينها في استهدافها بحملات دينية متقطعة.
وهذه الإشارة تفضح القدر الكبير الذي كانوا عليه من ضيق الأفق.
في عام 1978 أصدر المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت سلسلة (عالم المعرفة). وكانت هذه السلسلة من إنجازه. فهو الذي وضع خطتها المفصلة وحدد مسارها. وقد أنيط به مهمة الإشراف عليها. الإسلاميون في الكويت وفي غير الكويت كانوا مستائين من كتب هذه السلسلة، وبخاصة مع إصدارها الثالث، وهو كتابه (التفكير العلمي) الذي صدر في شهر مارس من ذلك العام.
فلقد سارع عبد المجيد عبد السلام المحتسب الأردني الفلسطيني صاحب كتاب (طه حسين مفكراً) إلى وضع الكتاب في ميزان الإسلام. وأقول سارع بذلك، لأن ما بين تاريخ مقدمة كتابه (ثلاثة كتب في ميزان الإسلام) الذي أصدره في لبنان وتاريخ صدور كتاب فؤاد زكريا حوالي أربعة أشهر.
وقد جاهر بالعداوة والعدوانية تجاه تلك السلسلة وتجاه مستشارها فؤاد زكريا زميله أحمد البغدادي في جامعة الكويت، أستاذ العلوم السياسية، بعد مضي ثماني سنوات على صدورها في تعقيب له نشرته مجلة (المجتمع) بتاريخ 14/4/1987، فقال محرضاً على السلسلة وعلى مستشارها: «وكذلك الجريمة التي ترتكب بحق القارئ لـ(عالم المعرفة) والتي يستشار الدكتور فيها فيما ينشر فيها من معلومات إذ أنه حتماً سيدس السم في العسل، لذلك ليس غريباً ألا نجد كتاباً واحداً لأحد علماء المسلمين عدا الدكتور محمد عمارة ومحمد خلف الله ذوي الاتجاه المماثل، وهما ليسا من المحسوبين على علماء المسلمين بأي حال من الأحوال».
وكان قبلها مباشرة قد قال محرضاً على طرده من الجامعة: «خلاصة القول إن د. فؤاد زكريا سواء بتبنيه فصل الدين عن الدولة من خلال العلمانية، أو بأسلوبه الملتوي في تجاهل لب القضية وليِّه لأعناق الحقائق كي يبرر وجهة نظره، كلها دلائل تشير إلى الجريمة التي ترتكب بحق الطلبة الذين يقوم بتدريسهم وهم على ضحالة من العلم لا يخفى أمرها على العالمين بأحوال المجتمع».
ذات عام في أول الثمانينات الميلادية قالت مجلة (المجتمع) في تحدٍّ للحكومة الكويتية واستفزاز لها في آن من أجل الاستغناء عن فؤاد زكريا في عمله في جامعة الكويت وعمله في المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب: إنه مسنود بجبل! وللحديث بقية.