نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

مَن يدفع ثمن التلويث؟

«الملوِّث يدفع» شعار رافق الحركة البيئية منذ نشأتها، لكن الغموض ما زال يكتنف تفسيره وتطبيقه. وقد اعتمد الإعلان الصادر عن «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية» في ستوكهولم عام 1972، الذي نحتفل بذكراه الـ50 في 5 يونيو (حزيران) المقبل، مبدأ تحميل الملوِّثين تبعة أفعالهم. فهو دعا إلى تضمين القانون الدولي بنوداً تكفل تحديد المسؤوليات ودفع التعويضات لضحايا التلوُّث والتدهور البيئي.
نظرياً، يبدو المبدأ منطقياً جدّاً، إذ يحمِّل الطرف الذي يتسبب بالتلويث الضارّ بالبيئة وصحّة البشر، أكان فرداً أم جماعة أم شركة، مسؤوليّة أفعاله. لكن المشكلة تكمن في تحديد مستويات التلويث التي يشكّل تجاوزها خطراً، حتى يُمكن حساب قيمة مادية للتعويض، مع تعيين مسؤولية كل طرف. وهذا يتطلب وضع معايير موحّدة واضحة وأنظمة تفرض تخفيض الانبعاثات. فهل المصنع المُنتج للسيارة مثلاً، هو المسؤول عن مستويات التلويث الناجمة عن تصنيعها واستعمالها، أم المستهلك الذي يقودها، وكيف يمكن توزيع الأعباء؟
على الشركات التزام القوانين أثناء عمليات الإنتاج، فتبقى الانبعاثات والفضلات من المصانع ضمن الحدود المسموحة، كما الانبعاثات الغازية من المحركات. ونلاحظ أن كشف المخالفات في هذا المجال غالباً ما يحصل في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث توجد معايير واضحة وصارمة. ونذكر كيف أن شركة «فولكسفاغن» الألمانية اضطرت قبل سنوات إلى استرداد 11 مليون سيارة من الأسواق، ودفع تعويضات بقيمة 15 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها، نتيجة تلاعب في الأنظمة الإلكترونية التي تقيس مستوى الانبعاثات من محركاتها. ونادراً ما تجد أمور كهذه طريقها إلى المحاكم في الدول العربية، بسبب غياب قوانين تحكم مستوى الانبعاثات يمكن للمستهلكين بناء قضايا عليها في المحاكم.
وما دمنا في مجال تلويث الهواء من السيّارات، فمن المفيد الإشارة إلى أن الحكومات تسعى إلى وضع أنظمة أكثر عدالة لتوزيع الأعباء على السائقين. فبعد سنوات من اعتماد آلية تحديد الرسوم وفقاً لمستوى الانبعاثات الضارة الصادرة عن المحرِّك، وليس حجمه فقط، بدأت بعض الدول الأوروبية ربط رسوم السير السنوية بالمسافة التي تقطعها السيارة. فكلّما قطعت السيارة عدداً أكبر من الكيلومترات، دفعت رسوماً أعلى لأنها تتسبب بانبعاثات أكثر. وإذا كان هذا يُعد تطبيقاً عادلاً لمبدأ «الملوِّث يدفع»، فهو تدبير يسهم أيضاً في التشجيع على استخدام وسائل النقل العام وتجنُّب المسافات الطويلة إلا عند الضرورة.
القانون البيئي الدولي يقوم اليوم على مبدأ أنّ من يتسبب بالتلويث وهدر الموارد الطبيعية هو المسؤول، لذا عليه أن يدفع الثمن. وهذا نوع من «الضريبة الاجتماعية» لأي مُنتج ومستهلك يتسببان بضرر لطرف ثالث. لكن هذا المبدأ العام لم يُترجم، في معظم الحالات، إلى قوانين وأنظمة. فرغم كل القوانين البيئية، ما زالت الولايات المتحدة تحتل المركز الأول في استهلاك البلاستيك ذي الاستعمال الواحد، الذي تملأ فضلاته الضارة الأرض والمحيطات، إذ لا قوانين أميركية صارمة تضع حدّاً لهذا. وقد سبقت بعض البلدان العربية، مثل المغرب والإمارات، الولايات المتحدة في هذا المجال، حيث تمنع القوانين كلّياً استخدام البلاستيك الوحيد الاستعمال. ومن المأمول أن تضع الاتفاقية التي أقرتها جمعية الأمم المتحدة العامة للبيئة بداية هذا الشهر معايير صارمة وقيوداً ملزمة لوقف التلوُّث بالبلاستيك، خاصة في المحيطات.
تطبيق أحكام مبدأ «الملوِّث يدفع» يطرح إشكالية في القانون الدولي، ترتبط بسيادة الدول على مواردها داخل حدودها، بما فيها حق استخراج الموارد الطبيعية وتحديد مستويات التلويث المقبولة. فأين يقع الخط الفاصل بين الحق الوطني والحق الإنساني العام؟ وهل يتشابه هذا مع مبدأ «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة» الذي اعتمدته الدول في قضايا تغيُّر المناخ، لتوزيع الأعباء وفق قدرات كل دولة؟ في حين ينطبق مبدأ «الملوِّث يدفع» على الأفراد والشركات، يشمل مبدأ «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة» العلاقات بين الدول، لتحديد مساهمتها في العمل المناخي وفق قدراتها. وحين يتعلق الأمر بتغيُّر المناخ، فإن مبدأ «الملوِّث يدفع» يوازي مبدأ «الخسارة والضرر»، كأساس لتحديد قيمة التعويضات التي ينبغي للدول الصناعية أن تدفعها للدول النامية، لقاء حجم مساهمتها التاريخية من الانبعاثات المسببة للتغيُّر المناخي. وقد تكون هذه هي العقبة الكبرى أمام الاتفاق على قانون دولي للمناخ، إذ تتجنب الدول الصناعية القبول غير المشروط بمبدأ التعويض عن أضرار سابقة.
لم يكن مؤتمر ستوكهولم قبل 50 عاماً المناسبة الأولى والأخيرة، حيث طُرح موضوع توزيع تكاليف التلوُّث والتدهور البيئي. ففي أوائل القرن العشرين، صدرت أحكام قضائية في الولايات المتحدة وكندا فرضت على شركات صناعية خفض الانبعاثات الضارة إلى مستويات أدنى، وأجبرتها على دفع تعويضات، خاصة لتسببها بمشكلات صحية من تلويث الهواء. وفي 1968، أقرّت المفوّضية الأوروبية تحميل المتسببين بالتلوُّث كلفة الخسائر الناجمة عن أعمالهم، وتعويض المتضرّرين. أما «قمة الأرض»، التي عُقدت في ريو دي جانيرو عام 1992، فأقرَّت تحميل الملوّثين، أفراداً وجماعات وشركات، كلفة الأضرار الناجمة عن تلويثهم للهواء والماء والتراب، وذلك كشرط لاستمرار التنمية على نحو مستدام لا يدمّر البيئة ولا يستنزف الموارد الطبيعية. كما اعتمدت هذا المبدأ «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، التي تضم أكبر الاقتصادات في العالم.
إذا كان مبدأ «الملوِّث يدفع» يحظى بهذا الإجماع، فماذا يعوق تطبيقه؟ الشيطان يكمن في تفاصيل إعلانات المبادئ وحروفها الصغيرة. فهذه تحوي نصوصاً تضع قيوداً على تسعير التلويث «إذا أضرَّ بالمصلحة العامة والتجارة الدولية». حتى إنَّ «اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغيُّر المناخ» تعترف بحق الدول في استثمار ثرواتها ضمن حدودها كما ترى مناسباً لمصلحتها. والواضح أن هذه «الجمل المعترضة» تسمح بتحويل مبدأ «الملوِّث يدفع» إلى كلمات فارغة. فهل تضرب التفاصيل التنفيذ الجدّي لاتفاقية البلاستيك؟
الواقع أن جزءاً كبيراً من مسؤولية التلويث في الدول الفقيرة النامية يقع على الشركات الصناعية العالمية الكبرى، التي تستغلّ القوانين البيئية الضعيفة لنقل مصانعها الملوِّثة إلى هذه الدول، بهدف إنتاج بضائع رخيصة للتصدير. لذا على القانون البيئي الدولي أن يفرض معايير وقواعد وأحكاماً وعقوبات، أينما كان موقع الإنتاج. والمطلوب من هذه التدابير دعم الدول الفقيرة لتطبيق شروط السلامة البيئية ومعاقبة الملوِّثين، بدءاً من مساعدتها في التخلُّص من الفقر. عندئذٍ فقط يمكن توزيع أعباء تكاليف التلويث بعدالة بين المستهلكين والمنتجين. لكن من يدفع تكاليف الأضرار البيئية التي تتسبب بها الحروب؟

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»