عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تعامل أوروبا مع لاجئي الحرب

ناقشنا الأسبوع الماضي دور الاختلافات الثقافية بين المجتمعات في إشعال حروب كبيرة من أحداث صغيرة لم تفسر في سياقها الصحيح. لاحظت تعاظم دور الاختلافات الثقافية من متابعتي لمواقع التواصل الاجتماعي المصرية (والعربية التي تسمح لوغاريتمات «فيسبوك» باكتشافها) في تفسيراتهم لسرعة ترحيب البلدان الأوروبية باللاجئين الأوكرانيين من الحرب، مقارنة «برفض» آخرين، وارتكز لنظريات المؤامرة، والاعتقاد «باضطهاد الغرب للمسلمين».
تفسير ناشطي التواصل الاجتماعي (وبعض الصحافيين العرب) خلاصته أن الأوروبيين عنصريون يتسع صدرهم للأوكرانيين لأنهم أوروبيون بيض البشرة ومسيحيون مثلهم، بينما يرفضون ويغلقون الحدود أمام غامقي البشرة، وأغلب القادمين مسلمون من آسيا وأفريقيا وبلدان الشرق الأوسط.
أكثر من معد برامج ومسؤول أخبار في تلفزيونات عربية استشارني، طالباً مشاركتي لتناول الموضوع، من المنظور نفسه (عنصرية أوروبا والغرب)، مستشهداً بأن مذيعاً في شبكة تلفزيون أميركية قال ما معناه إن بلداناً كالمجر والنمسا التي أقامت أسلاكاً شائكة على حدودها، لمنع تدفق المهاجرين حتى وقت قريب، تفتحها الآن مرحبة باللاجئين الأوكرانيين «لأنهم مثلهم مسيحيون وبيض البشرة». كانت نصيحتي لمعدي البرامج التلفزيونية هؤلاء، أن يشاهدوا نشرات الأخبار المعنية كلها ويدرسوا تقارير المراسل نفسه كاملة في إطار السياق الذي ذكرت فيه العبارة، تجنباً لشرك التفسير غير المكتمل بمثال «لا تقربوا الصلاة.....».
كل مجتمع، ولا شك، تحركه ديناميكية ثقافة «موزاييك» نسيج متعدد الألوان تشكلت غرز تطريزه عبر الأجيال كلوحة تحكي تاريخ القصة القومية، وبين أبطالها الطيب والشرير، والمظلوم والظالم، والكريم المتسامح والمنغلق العنصري. أما إدانة ناشطين على التواصل الاجتماعي، لأوروبا والغرب بأنهم عنصريون تحركهم الإسلاموفوبيا، فيعود، (من نوعية التعليقات)، للخلافات الثقافية بين مجتمعات شمال وغرب البحر المتوسط في ناحية، وجنوبه وشرقه في ناحية أخرى، ولاختلاف ثقافة وطرق تناول مناهج التعليم، خاصة مع تراجع دور تدريبات التفكير النقدي في الدراسة.
علماء النفس الاجتماعي أحياناً من يرجعون أسلوب التفكير الجماعي لمجتمعات كاملة إلى شعور الـvictimhood أي الاعتقاد بأن الأوطان ضحية مؤامرة تاريخية تخططها قوة خارجية (الاستعمار، أو الاستثمارات العالمية، أو الحركة الماسونية مثلاً)؛ فيتحول الشعور لقود تفكير كتّاب التواصل الاجتماعي وعديد من منصات النشر في البلدان الشرقية. بالنسبة للمقارنة بين إغلاق بلدان حكوماتُها يمينية (كالمجر مثلاً) لحدودها أمس أمام القادمين من بلدان إسلامية وشرقية، وترحيبها اليوم بالأوكرانيين، فهي حقيقة واقعية صحيحة، كلقطات أو مشاهد منفصلة من مسرحية، أو مسلسل تلفزيوني، لكنها لا تزال خارج سياق المشهد الكامل.
خذ مثلاً إلحاح صنّاع الرأي العام، والساسة في بريطانيا على الحكومة لقبول المزيد من لاجئين أفغانيين مسلمين يعانون وطأة سيطرة «طالبان» (بجانب أكثر من عشرين ألفاً منهم، استقبلتهم بريطانيا منذ الصيف الماضي) لا يزال مستمراً، ويمكن الرجوع إلى عدد الطلبات والأسئلة المثارة في مجلس العموم بالنسبة لأي لاجئين من مكان آخر ـ في سجل هانزارد، الذي يوثق لكل جلسة في كل لجنة وكل قاعة وكل كلمة تذكر في برلمان وستمنستر.
أما بالنسبة للمقارنة بين فتح الأوروبيين حدودهم أمام الأوكرانيين، وإغلاق كثيرها أمام الشرقيين والأفارقة، فيجب وضعها في سياقها الواقعي، (ولندَع جانباً إعلان المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قبول مليون مهاجر ولاجئ من سوريا والعراق). كم بين القادمين من بلدان إسلامية وأفريقية لاجئين حقيقيين؟
غالبية الشباب الأوكرانيين المقيمين لسنوات في أوروبا الغربية، سواء كانوا أطباء، أو مهنيين، أو عمالاً، أو طلاباً، اشتروا معدات وملابس الدفاع من مدخراتهم الخاصة وهرولوا عائدين إلى أوكرانيا للتطوع في الجيش أو في منظمات الدفاع للقتال (واحتمال الموت) دفاعاً عن الوطن، مضحين بمستوى معيشة أفضل وبأمان أوروبا الغربية.
بينما يلاحظ القراء مثلاً، إذا شاهدوا فيديوهات نزول آلاف من المهاجرين بالقوارب على الشواطئ الإنجليزية وجزر البحر المتوسط الأوروبية التابعة لإيطاليا وإسبانيا مثلاً، أن الغالبية الساحقة منهم شباب ورجال في سن الخدمة العسكرية، والأقلية النادرة من النساء والأطفال.
هذه الملاحظات بالطبع لا تفوت المشاهدين والجمهور العام في بلدان أوروبا الغربية، وبلا استثناء، كل حكوماتها (حتي اليمينية منها) منتخبة ديمقراطياً من شعوبها، وبالتالي تستميل الناخب بانتهاج سياسات تستجيب للاتجاهات السائدة في الرأي العام. وبالمقابل الغالبية الساحقة من اللاجئين القادمين من أوكرانيا هم من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والعجزة، بينما يهرع شباب أوكرانيا عائدين للقتال دفاعاً عن بلادهم؛ كما أن حكومة أوكرانيا أصدرت قانون طوارئ بمنع مغادرة الرجال ما بين أعمار الثامنة عشرة والستين؛ ببساطة الرأي العام في أوروبا الغربية سجل في وعيه أن الأوكرانيين لاجئون حقيقيون حسب تعريف القانون الدولي.
الفارق الآخر أن اللاجئين الأوكرانيين يلجأون إلى الأمان بعيداً عن الحرب في أول بلد مجاور لبلدهم كبولندا، والمجر، وسلوفاكيا، ومولدوفا، ورومانيا، في حين أن المهاجرين الأفارقة والآسيويين والشرق أوسطيين (يسمون أنفسهم لاجئين)، لم يطلبوا اللجوء أو يقنعوا بالأمان في بلدان مروا بها. فالمهاجر (الذي يطلب اللجوء السياسي بادعاءات شتى في بريطانيا مثلاً) من باكستان أو إيران، أو نيجيريا، أو الصومال، كم بلد «آمن» مر بها (تركيا، وبلدان الشمال الأفريقي، واليونان، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا، وبلدان وسط أوروبا) قبل أن يصل إلى ألمانيا أو السويد والنرويج وبريطانيا ليطلب اللجوء فيها؟
وكم دفعوا إلى مهربي البشر - عادة يتراوح المبلغ ما بين أربعة إلى تسعة آلاف دولار - ليصلوا بهم إلى شاطئ القنال الإنجليزي (بحر المانش)، وهل فرنسا مثلاً أو إيطاليا، أو بلدان البلقان الأوروبية غير آمنة، للجوء فيها؟
السياق الآخر أن الرأي العام في أوروبا الغربية يدرك أن الأوكرانيين أرغموا على الحرب من خصم خارجي هو جارهم القوي، أما في النماذج الأخرى، محل المقارنة، فكلها تقريباً حروب وصراعات أهلية داخلية بين أهل البلد الواحد، وهي فوارق بالغة الأهمية في الثقافية الغربية الأوروبية في تشكيل تعاطف الرأي العام مع الطرف الأضعف الذي يتعرض للعدوان، خاصة في بريطانيا.
باختصار، الاتهامات لأوروبا الغربية بالعنصرية ضد المسلمين وضد الشعوب الشرقية، التي تروّج على مواقع التواصل ومنصات التعبير المصرية والعربية، غير دقيقة، ومصدرها الاختلاف الثقافي في الإدراك، وغياب ثقافة تحري المعلومات، وتوظيف التفكير النقدي، لوضعها في السياق الملائم عند مراجعة الأحداث.