يونـس سليمـاني
صحافي جزائري يشرف على الشؤون الدولية في «الشرق الأوسط»
TT

«عملية بوتين» تحرّك مدروس أم مغامرة؟

وأخيراً، باتت الحرب في أوكرانيا حقيقة نرى لهبها وضحاياها ولاجئيها وتداعياتها المريرة. صدقت تحليلات صور الأقمار الصناعية العسكرية التي رجحت لجوء بوتين للغزو عندما حرك عشرات الآلاف من قواته قرب الحدود.
روسيا «استعادت» الشرق الأوكراني بجلسة برلمانية دامت ساعات، ثم حركت في اليوم التالي، جيوشها، براً وجواً وبحراً، لغزو أوكرانيا، كل أوكرانيا، محددة جملة أهداف أهمها تجريد البلد من السلاح وتخليص شعبه من «قيادته النازية».
بعد نحو أسبوع، لا تزال «العملية العسكرية» الروسية تترنح؛ تحاصر مدناً، ضمنها العاصمة، دون الاستيلاء عليها إثر بروز مقاومة نظامية وشعبية مستعينة بتسليح غربي. وفي خضم المعارك، أمر بوتين مرؤوسيه العسكريين، في حالة غضب، بوضع «قوات الردع الاستراتيجي» على أهبة الاستعداد، ثم شرع في اليوم التالي، في التفاوض، وعاد لقبول وساطة الرئيس الفرنسي وعرض عليه شروط بلاده لوقف الحرب.
أحداث فوضوية ومتسارعة تابعها العالم باهتمام وهلع على مدى أيام. الغزو كان لافتاً وحمل دروساً عدة، من التاريخ والسياسة وأعاد إلى الأذهان أوحال التدخل و«المستنقعات»، كما كان رد الغرب لافتاً وحمل دروسه عن «تضامن ضفتي الأطلسي وقت الشدة».
الغرب ممثلاً بدوله ومؤسساته كان سريعاً ومنسقاً في فرض عقوبات قاسية، وتحريك المنابر الدولية والآليات الحقوقية والإنسانية لإدانة «الجهة المعتدية»، وأيضاً لتسريع تسليحه «الجهة المعتدى عليها»، وتقديم المساعدات لها وقبول لاجئيها.
الأزمة في جوهرها استحضار لقضية قديمة من عهد الحرب الباردة (1945 - 1991)، تتعلق أساساً بالأمن الأوروبي ولا أحد يعرف على وجه الدقة إن كانت ستبقى محصورة في حدودها الجغرافية والسياسية الحالية أم تتطور إلى حرب باردة ثانية أو حرب ساخنة عالمية ثالثة.
بوتين اليوم، بعدما أوقف بلاده مجدداً على رجليها وأعاد لها هيبتها واقتصادها على مدى عقدين من الزمن منذ وصوله إلى الحكم، يحاول توسيع النفوذ. وفي مسعاه ذاك، اصطدم بدولة جارة وكبيرة نسبياً (أوكرانيا ذات الـ٤٤ مليون نسمة) كانت تاريخياً سوفياتية، لكنها منذ عام 2014 يممت وجه الغرب سياسياً. حالتها سببت له إزعاجاً، فطلب من الغرب ضمانات بعدم ضمها في حلفه العسكري، إلا أن طلبه رُفض رغم أن حلف «الناتو» لا يبدو متسرعاً في عملية الضم.
ما يفعله بوتين الآن هو التحرك لإعادة «البلد المتمرد» إلى بيت الطاعة وتبديل القيادة فيه حتى تغير وجهتها شرقاً على غرار دول «منظومة الأمن الجماعي» الموالية. يريد فعل ذلك مع أوكرانيا وهي دولة غير أطلسية قبل أن تتحول أطلسية ويستحيل عليه مواجهتها عسكرياً حينها. دخول بوتين في حرب مع دولة عضو في حلف شمال الأطلسي خط أحمر لا يتحمله عالم اليوم.
بوتين مستاء من انهيار الاتحاد السوفياتي ومن التاريخ عموماً. خططه الآن تركز على أوكرانيا لكنه وسع أيضاً خلال الأيام الماضية تهديداته للدول القريبة الأخرى التي لم تنضم رسمياً بعد إلى الحلف الأطلسي (فنلندا والسويد). بوتين بدا مستعداً لفعل أي شيء من أجل عدم رؤيته دبابات الغرب وأسلحته النووية تدخل دولاً سوفياتية سابقة وتؤسس فيها قواعد، ولذلك فإنه يريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد خسارة بولندا والتشيك والمجر وبلغاريا ودول البلطيق والتحاقها كلياً بالغرب سياسياً ودفاعياً.
«سيد الكرملين» وجد في البداية تضامناً من القوة الكبرى شرقاً، الصين، إلا أن تسارع أحداث الحرب حمل له مفاجآت؛ فبكين بدأت تأخذ مسافة وأدارت ظهرها قليلاً (أكدت رفضها تغيير خرائط الدول وقالت إن الوضع الحالي للحرب «لا تريد رؤيته»). كما أن الغزو سرع السيناريوهات التي تحرك بوتين لمنعها أساساً؛ فأوكرانيا سرعت في خضم الحرب تقديم ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي طلباً لحماية أكبر، وفنلندا حركت هي الأخرى طلب انضمامها إلى «الناتو».
وعليه، فإن سؤال المرحلة الضاغط بات يردد: هل ما يقوم به الرئيس الروسي تحرك مدروس يمكنه أن يحقق شيئاً، أم أنه مغامرة قد تأتي بنتائج عكسية؛ تدخله في عزلة دولية وتهدد كل ما بناه لبلاده على مدى عقدين من الزمن؟