جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

رُوليت روسية

الروليت الروسية (Russian Roulette) لعبة قمار معروفة، تختلف عن لعبة الروليت العادية التي نراها في أشرطة السينما والتلفزيون، وتتوفر في محلات القمار في مختلف بلدان العالم. في لعبة الروليت العادية المنتشرة، يقامر المرءُ بأموال يدفعها لقاء أمل في ربح سريع. تلك الأموالُ مرهون مصيرها في حركة دوران كرة معدنية صغيرة تُدفع فتنطلق في دوران سريع، في إناء دائري يشبه قصعة، مُعلّم بأرقام وألوان. وكلما دارت في القصعة، دارت معها العيون واضطربت لها القلوب، حتى تقف أخيراً على رقم ولون. هناك يتنفس البعض الصعداء، وهم الرابحون. ويتحسر آخرون، وهم الخاسرون.
في الروليت الروسية لا وجود لأموال تُخسر أو تتضاعف. ولا لكرة تدور في قصعة تتعلق بها عيون وقلوب. بل لسلاح ناري -مسدس- محشو مخزنه برصاصة واحدة. لاعبو الروليت الروسية يقامرون بحيواتهم؛ إذ يدور بينهم المسدس بالدور، واحداً واحداً، وكل منهم يمسك بالمسدس، ويقرّبه لرأسه، ويضغط على الزناد. في الروليت الروسية الحياة هي الثمن. الرابح يفوز بالبقاء حيّاً، والخاسر يغادر الدنيا غير مأسوف عليه.
اللعبة قديمة. يقال إنها تعود إلى زمن حكم القياصرة في زمن الإمبراطورية الروسية. كانت الإمبراطورية، آنذاك، تحتل بلداناً وشعوباً عدة، وتتمدد في مساحات شاسعة. وكانوا يرسلون بجنود لحماية الحدود المتطرفة، في أماكن نائية تخلو من الحياة. ولكي يفرّ الجنودُ من الموت ضجراً ومللاً، ورغبة منهم في تزجية فراغ لا مهرب منه، لم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى اختراع تلك اللعبة المميتة. اللعبة انتشرت بعد ذلك خارج روسيا، وصارت تعرف باسم الروليت الروسية؛ تمييزاً لها عن الروليت العادية. ثم استعير الاسم ليصير مصطلحاً ضمن مفردات القاموس الحياتي عموماً، وضمن مفردات المعجم السياسي خصوصاً. في الأول صار يعني التهور، وفي الثاني يعني الانتحار السياسي.
الروليت الروسية عادت في الآونة الأخيرة لتطفو على سطح الأحداث، من خلال ما صار يعرف حالياً بالأزمة الأوكرانية التي تمثل تهديداً خطيراً للسلم العالمي. البعض من المعلقين الغربيين يشبّه تصرفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسلوك لاعب روليت روسية يقامر بحياته. وتزجية الفراغ بالطبع ليست الدافع لذلك. الأسبابُ -من وجهة نظر موسكو- تتعلق بالأمن القومي لروسيا. تلك الأسباب، البعض منهم -وهم قلة- يراها وجيهة، وتستدعي المخاطرة. والبعض الآخر -ويمثلون الأكثرية- لا يرون في الأمر سوى محاولة أخرى يائسة من الرئيس الروسي، في سعيه لاستعادة ما ضاع من أملاك ومقتنيات الإمبراطورية السوفياتية المنهارة. وفي الحالتين، فإن الرئيس الروسي بوتين يضع حياته السياسية ومستقبل بلاده رهن مقامرة. ربما يكون محظوظاً وتُكتب له النجاة والمجد. وربما يتخلى عنه الحظ، ويلاقي المصير نفسه الذي لاقاه مئات الجنود الروس في تلك البقاع النائية، وهم يحاولون قتل فراغ، فقتلوا أنفسهم.
من جهة أخرى، يمكن القول إن قادة دول الغرب أيضاً، وليس الرئيس بوتين فقط، يلعبون روليت روسية، ولكن بطريقتهم. والمعنى أنهم على علم ودراية بأولويات الأمن القومي الروسي. وعلى معرفة بالخطوط الحمراء المحظور تجاوزها؛ لكنهم قبلوا بالدخول في مغامرة تحدٍّ مميت. وخططوا لحلف «الناتو» أن يمد جناحيه على ذلك الجزء من القارة الأوروبية الذي تعدّه روسيا محظوراً عليه، وضمن حدود أمنها القومي. أوكرانيا كانت الحلقة الأخيرة في تلك اللعبة. وانضمامها لحلف «الناتو» يعني تهديداً فعلياً للأمن القومي الروسي. السكوت عن ذلك التجاوز من جانب موسكو له أثمان مكلفة. وفي الوقت نفسه، فإن الوقوف ضده، واتخاذ موقف حاسم منه بالتصدي له وردّه، له أيضاً أثمان مكلفة. وهذا لا يعني أن قادة الغرب كسبوا الرهان؛ لأن الموقف -حتى الآن- يسير باتجاه الخروج على السيطرة، ومن ثم الانفجار. وإذا قامت حرب فعلية، فإن نيرانها ستطال الجميع. الخاسر الأكبر سيكون السلم العالمي الذي تحقق بعد كوارث حربين كونيتين مهلكتين، وملايين الضحايا. وبالطبع، في زمن الرعب النووي، لن يكون هناك رابحون. وحتى إن وُجدوا، فلن تكون هناك حياة.
الخطوة الروسية الأخيرة بالاعتراف باستقلال إقليمي لوغانسك ودونيتسك الأوكرانيين، ليست سوى محاولة أخرى لمفاقمة وضع في حالة غليان غير عادي. والعقوبات الأميركية والأوروبية المعلن عنها، قد تؤتي ثمارها، ولكن ليس آنياً؛ بل بعد زمن. وما سيحدث -في رأيي- هو أن الإقليمين المستقلين سوف يتقدمان، بعد مدة قصيرة، بطلب انضمام إلى الفيدرالية الروسية، وبذلك تبتلعهما روسيا رسمياً. ومن الممكن بعدها أن تقبل موسكو باتفاق تسوية مع الغرب، وبشروط تجعل من غير الممكن على أوكرانيا الانضمام إلى حلف «الناتو». وهذا في حالة ما لم تنفلت الأمور، وتشتعل نيران الحرب.