لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
TT

الطفل ريان والإعلام... أسئلة الأخلاقيات والمِهنية

تضامن الشعب المغربي ومعه العالم بأسره، مع قضية الطفل المغربي ريان أورام، الذي سقط في بئر عمقها 32 متراً، الثلاثاء الماضي، في محافظة شفشاون (شمال البلاد)، ولم تتمكن عائلته من انتشاله؛ لأنه بقي عالقاً في حفر ملتوٍ وضيق، يصعب على أي من المنقذين أن يصل إليه.
جنَّدت السلطات المغربية كل الوسائل لإخراج ريان من البئر، ولكن الأمر تطلب حفرَ عُمقٍ آخر مكشوف مُوازٍ للبئر، ليتم بعده حفر نفق أفقي، يصل عبره رجال الوقاية والطاقم الطبي إلى ريان بطريقة أسهل وأكثر أمْناً؛ بيد أن هذه العملية المعقدة كانت محفوفة بالمخاطر؛ لأن التربة في هذه المنطقة سهلة الانزلاق، وقد تؤدي في أي وقت إلى السقوط وردم البئر على الطفل العالق. لهذا جرى حفر النفق العمودي الموازي المكشوف بآليات الحفر، وهو الأمر الذي تطلب أكثر من 48 ساعة؛ بعدها جرى حفر النفق بآلات يدوية، تجنباً لانجراف التربة. وقد استعان المهندسون المغاربة بأنابيب حديدية ضخمة، يتم إدخالها كلما تقدم الحفر، لكي لا تسقط التربة على النفق وتُعرِّضَ حياة العاملين للخطر. عملية دقيقة، ومعقدة، تتطلب عناية فائقة الحساسية، ولكنها تتطلب أيضاً وقتاً طويلاً، وبدا الوقت عاملاً حاسماً.
كان ريان في الداخل يعاني من كسور في جسده، ومن انعدام الأوكسجين، والعطش، وربما البرد، وعدم القدرة على الحركة. وجرى تزويده ببعض الطعام والأوكسجين عبر أحبال يتم إدخالها بعناية؛ لكن عدم قدرته على الحركة، كما تبين ذلك الكاميرا، لم تُسعِفْه على الأكل والشرب.
بعد 3 أيام من الحفر اليدوي الدقيق، والذي كان يرتطم بصخور وجب نبشها بعناية فائقة، وعملية التدرج في إدخال الأنابيب الحديدية الضخمة عبر النفق الذي يبلغ طوله أكثر من 7 أمتار، تم الوصول إلى ريان ليلة السبت 5 فبراير (شباط) ليجدوه قد وافته المنية. من المفترض أنه قاوم كثيراً من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن الأجل المحتوم باغته وهو على شفا حفرة من الإنقاذ والرجوع إلى أهله.
بكى الشعب المغربي والشعوب العربية ريان، وبكى معهم العالم، ودعوا له، واستعطفوا الله، وصلُّوا على النبي. هناك من قرأ القرآن، وهناك من ردد التراتيل الإنجيلية، أو الأدعية اليهودية، أو غيرها. شُدَّت الأنفاس، وانكربت القلوب، وانهمرت الدموع في كل بقاع المعمور.
لم تُوحِّد قضية عالماً ملؤه الحروب والنزاعات والأحقاد، مثلما وحَّدته قضية ريان. نسي الجزائريون والمغاربة النزاعات السياسية، وبكوا جميعاً ريان. ردد الفلسطينيون والإسرائيليون أدعية إسلامية ويهودية. ولم يلتئم اليمين واليسار في أميركا على قضية واحدة في السنوات الأخيرة، مثلما فعلا في الدعاء لإنقاذ ريان.
هناك من ذهب إلى حد القول بأن ريان وحَّد العالم، وأظهر الشعور الإنساني القوي لدى الكل. غير أني أظن أنه يجب ألا يُحوَّل إلى معجزة! هو فقط طفل بريء، ربما كان يلعب ويركض بكل عفوية على هضاب منطقة الريف المغربي، قبل أن يفاجأ بسقوط من على علو 32 متراً في بئر شديدة الضيق على المستويات السفلى.
التغطية الإعلامية كانت مهنية لدى عدد لا يستهان به من وسائل الإعلام المغربية والعربية والدولية؛ حيث جرى التركيز على الخبر، واستقصاء الحقيقة من مصادرها الرسمية، والتعليق المناسب للحظة، أي عدم التشويش السياسي أو غيره على عملية الإنقاذ، وعدم تحويل الحدث إلى مناسبة للتفرج على مآسي الغير.
لكن هناك الكثير ممن تعامل مع القضية بانتهازية، من أجل تمرير رسائل سياسية، أو لتحقيق النجومية، أو لاصطياد الفرص للزيادة في عدد المُعجبين.
في بيانه حول التغطية الإعلامية لقضية الطفل ريان، رصد المجلس الوطني للصحافة المغربية عدداً من الخروقات، منها: «تصوير الطفل ريان في قاع البئر بوجهه الدامي، في وضعية إنسانية صعبة»، و«استجواب أطفال قاصرين»، وكذا «نشر صور قاصرين عبر أشرطة مصورة بمحيط عملية الإنقاذ، بغرض الإثارة المجانية».
تصوير الأطفال أو استجوابهم من دون حضور وموافقة آبائهم في مثل هذه الظروف، هو ضرب سافر لحقوق الطفل؛ خصوصاً ما يتعلق منها بحماية الأطفال من الاستغلال الإعلامي أو السياسي. نشر صور لطفل في حالة حرجة من دون موافقته، ومن دون ترخيص من أبويه، واستعمال الجروح والدم لدغدغة العواطف، في إطار فرجة إعلامية معكوسة، هو منافٍ لأخلاقيات المهنة.
أحد الصحافيين الذي كان مكلفاً تغطية الحدث لصالح قناة إلكترونية، تساءل باكياً: أين البرلمانيون والساسة؟ ولماذا لم يأتوا ليُكَبِّروا ويُهلِّلوا مع الحشود المتجمهرة بالقرب من البئر؟ أي: لماذا لم يأتِ الساسة للمشاركة في مأتم عمومي تلقائي، ملؤه البكاء والتكبير والصلاة على النبي؟
الإعلامي السوري فيصل القاسم، كتب على «تويتر»: «كم أنت محظوظ يا ريان» على هذا الاهتمام الإعلامي؛ بينما الأطفال السوريون واليمنيون يفترشون الأرض، ويعانون من الجوع والبرد... القاسم كان على حق فيما يخص معاناة الأطفال في سوريا واليمن؛ لكنه حقٌّ أُريدَ به باطل، وإثارة الجدل، والفرجة الإعلامية، والنقاش والردود على «تويتر» وعلى غيره من مواقع التواصل الاجتماعي. ناهيك عن أن القاسم لم يشرح لنا كيف أن طفلاً صغيراً مكَسَّر الأضلع والرأس، عالقاً في بطن الأرض في الظلام، من دون القدرة على الحركة أو الأكل لمدة 5 أيام و4 ليالٍ، هو طفل محظوظ، يَغْبِطه صاحب التغريدة!
هنا، أحيي من تعامل مع القضية بكامل المهنية والأخلاقية، متأكداً من صدق المعلومة، مُحبِّذاً عدم الخوض في المزايدات السياسية، وعدم تصوير مآسي الغير لتسويقها إعلامياً.
في غضون ذلك، هناك من استعمل الحدث للفُرجة الإعلامية. والفُرجة ليست دائماً ملتصقة بالفرح.
إن البكاء والمطالبة بحضور السياسيين للتكبير، يخلقان فُرجة من نوع آخر، هي عبارة عن بكاء جماعي عبر وسائل مهمتها تغطية حدث، وليس تنظيم طقوس مأتم طابعه الحزن والبكاء. الفُرجة أيضاً تكمن في عملية استراق النظر لخصوصيات الغير، كما حصل حين جرى تصوير جروح الطفل ريان. هذا الاستلذاذ المعكوس لا يختلف عن أنواع أخرى من سرقة النظر غير محزنة، والتي هي منبوذة أخلاقياً على كل حال.
رحمك الله يا ريان. لم تكن يوماً تظن أن جسدك النحيف سيعلق في بطن الأرض، وسيجعلك صيداً ثميناً لمن نسوا أخلاقيات المهنة، ولهثوا وراء الشهرة والإثارة والإعجاب، بجنون شعبوي غير مسبوق.