بيثاني ماكلين
TT

الخطوط الفاصلة بين الحلم والعبث والاحتيال رفيعة للغاية

في كتابه حول السيرة الذاتية لإسحاق نيوتن الصادر عام 1993، أعرب ريتشارد ويستفول عن اعتقاده بأن أجزاء من مجهود نيوتن في كتابه البارز «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية»، «لا يعدو كونه احتيالاً متعمداً». وبغضّ النظر عن مدى صحة هذا الرأي، يظل من الواضح أن نيوتن قدّم تنازلات بالفعل من أجل خدمة رؤيته. ولم يكن نيوتن العالم الشهير الوحيد الذي بدا مستعداً لفعل أي شيء تقريباً أملاً في تحقيق إنجاز علمي كبير، ذلك أن طموح البعض قد يدفعهم إلى تعاطي المخدرات أو اتّباع رؤى غامضة أو ممارسة الكذب والخداع من أجل التوصل إلى اكتشاف، حسبما ذكر مايكل بروكس في كتابه «الراديكاليون الأحرار: الفوضى السرية بمجال العلوم».
من ناحية أخرى، أصدرت هيئة المحلفين في القضية المرفوعة ضد إليزابيث هولمز، المؤسسة والرئيسة التنفيذية لشركة «ثيرانوس»، حكماً، قبل ثلاثة أسابيع بعد محاكمة استمرت أربعة أشهر وتضمنت الاستماع لشهادة العشرات من الشهود، حكماً مختلطاً خلص إلى إدانتها بأربعة فقط من 11 اتهاماً موجهاً إليها. وأعلن محققون أن القضية كانت «تتعلق بتصريحات كاذبة جرى الإدلاء بها أمام المستثمرين، وكذلك الإدلاء ببيانات كاذبة جرى الإدلاء بها للمرضى». في المقابل، جادل أعضاء فريق الدفاع عن هولمز بأنها كانت «تؤسس شركة، وليس مشروعاً إجرامياً». وعلى ما يبدو، اقتنع المحلفون ببعض من أجزاء الحجتين، وخلصوا إلى أنها مذنبة بالكذب على بعض، وليس جميع، المستثمرين المشاركين في «ثيرانوس». ولم تتمكن هيئة المحلفين من التوصل إلى حكم بخصوص باقي المستثمرين. أما فيما يتعلق بالتهم الموجهة إليها بالاحتيال على المرضى، فوجدت هيئة المحلفين أنها غير مذنبة.
ويمكننا النظر إلى نتيجة هذه المحاكمة بوصفها استفتاء على جشع الشركات أو سوء سلوكها، الأمر الذي يفعله الكثيرون بالفعل. ومثلما كتب جيسون كالاكانيس عبر «تويتر» بعد صدور الحكم: «تذكير للمؤسسين: لا تكذب أبداً، لا تلوي عنق الحقيقة أبداً، التزم الصدق دوماً... أوه، نعم، لا تكن معتلاً اجتماعياً بأوهام العظمة».
البدهيّ أن يصدر حكم هيئة المحلفين ما بين أبيض وأسود، لكن القصة الحقيقية نادراً ما تكون بهذه البساطة. الحقيقة أننا كثيراً ما نفكر في الحالمين والمحتالين كأضداد قطبية، بينما على أرض الواقع، تماماً مثلما الحال مع نيوتن، يتمتع الكثير من رواد الأعمال العظماء اليوم ببعض من سمات الجانبين. في هذا الصدد، ذكر العالم بيتر مدور، تبعاً لما ورد في كتاب «الراديكاليون الأحرار: الفوضى السرية بمجال العلوم»: «إن العلماء الذين يقعون في حب فرضياتهم بعمق، يصبحون غير مستعدين لأخذ الرفض كإجابة تجريبية».
اليوم، يمكنك تبديل كلمة «علماء» بكلمة «رواد أعمال». في الواقع، هذا تساؤل يحمل طابعاً شديد الأميركية حول ثمن النجاح: ما الدرجة المقبولة من عدم الأمانة، خصوصاً إذا كان الكذب ناجماً عن قدر معين من خداع الذات؟
كمجتمع، نبدو على استعداد لتحمل هذا الأمر -إلى حد ما. وسواء تعلق الأمر بشركات تكنولوجيا تقدم وعوداً بخصوص منتجات غير موجودة بصورة كاملة في شكلها الموعود لإغواء العملاء أو المستثمرين، أو إيلون موسك الذي يروّج لسيارات تسلا «ذاتية القيادة الكاملة» التي لا تقود نفسها في الواقع، فإن الخط الفاصل بين الحالم والمحتال ربما لا يكون حاسماً. والسؤال هنا: لو أن فريق العمل المعاون لهولمز حقق تقدماً كبيراً قبل طرح تكنولوجيا «ثيرانوس» عبر أرجاء البلاد وعملت الأجهزة بنجاح، هل كان أحد ليأبه بمجموعة الأكاذيب التي جرى سردها في البداية؟
أما النقطة التي نرسم عندها الخط الفاصل، فقد تبدو عشوائية، ومع ذلك تبقى هناك بعض الثوابت، ومنها أننا نحفّز القوة الكاملة للقانون ضد الشخص الذي يَعْلَق في الوسط بين منطقتي الحلم والاحتيال. في المقابل، فإن القادرين على الاستمرار في جمع الأموال يستمرون في المحاولة، وفي بعض الأحيان، يتمكنون من كتابة التاريخ في خضمّ ذلك -وكذلك الحال مع الحالمين.
على النقيض نجد أن الذين نفد منهم المال ينفد حظهم كذلك. تجدر الإشارة هنا إلى أن إنرون كانت واحدة من المؤسسات التي جرى ضبطها في أعقاب إفلاس الشركات التكنولوجية، عندما عادت الشكوك تحيط بأسلوب عمل مثل هذه الشركات. لو كانت إنرون موجودة اليوم، في وقت أصبح رأس المال شبه مجاني ولا يجري طرح سوى القليل من الأسئلة، ربما كانت الشركة لتصبح قادرة على الاستمرار في جمع المليارات التي تحتاج إليها للتغلب على الثغرات القائمة في مواردها المالية. كان من الممكن أن تصبح نشاطات الشركة بمجال الـ«برودباند» الخاصة بشركة «إنرون»، أقرب إلى «نتفليكس» اليوم. وإذا كشف شخص ما بعد سنوات عن جميع الخدع المالية التي استخدمتها «إنرون» للإبقاء على سعر سهمها مرتفعاً، فهل كان أي شخص سيأبه لأمر الخداع الذي جرى اتخاذه سبيلاً للوصول إلى النجاح؟
إلى جانب ذلك، فإن مدى استعدادنا للتسامح والتغاضي يتعلق بمن يتعرض للأذى، ومن يموّلون الحلم أو الاحتيال -أي المستثمرين- وأنهم ليسوا دوماً شخصيات تثير التعاطف، على الأقل من وجهة نظر القانون.
في هذا الصدد، أعرب الكاتب سكوت غالواي عبر موقعه الإلكتروني في خريف عام 2019، أن الخطوط الفاصلة بين الحلم والعبث والاحتيال رفيعة للغاية. وجاء ذلك في تعليقه على أزمة شركة «ويورك» عندما أرجأت طرحها العام الأوّلي للأسهم. وقال: «ثمة رائحة كريهة تنبعث من هذا الأمر... ثمة أمر خاطئ، ثمة أمر لا يبدو متسقاً».
في ذلك الوقت، ثارت علامات استفهام حول أسلوب تصنيف «ويورك» للنفقات والأساليب الكثيرة التي سلّطها رئيس الشركة، آدم نيومان، لإثراء نفسه. ورغم إجبار نيومان على الرحيل عن الشركة نهاية الأمر، فإنه لم يواجه اتهامات بالوقوع في جرائم جنائية قط، ذلك أنه في نهاية الأمر من عانى هم مستثمرون نَجَم جزءٌ من معاناتهم عن جشعهم ورفضهم طرح الأسئلة المناسبة.
ويُعيدنا ذلك إلى إليزابيث هولمز، التي يرى من آمنوا بأنها مدانة بجرم عظيم أن الحكم الصادر بحقها جاء مخيباً للآمال. ورغم إدانتها بالتورط في عدد محدد من الكذبات، فإن هيئة المحلفين لم ترَ أنها كانت تدير مخططاً إجرامياً بوجه عام. وبرأتها هيئة المحلفين من تهمة الكذب على أطباء ومرضى، ما يعكس إيمان أفراد الهيئة بأنه كان لديها الحق في الاعتماد على تأكيدات حصلت عليها من مسؤولين تحت سلطتها بخصوص نجاح التكنولوجيا الجديدة.
في واقع الأمر، كان الحكم المعاكس تماماً هو ما توقعته -وبصراحة رغبت فيه. لقد اعتقدتُ أنها ستدان بالكذب على المرضى، بينما لن تدان بالكذب على المستثمرين، الذين أعتقد أنه كان يتعين عليهم الاضطلاع بجهد في التحقق من صحة ما تطرحه عليهم بأنفسهم، تماماً مثلما فعل نظراؤهم الذين رفضوا تقديم أموال إلى «ثيرانوس».
* خدمة «نيويورك تايمز»