د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

المرأة ومجتمعات الأنا العليا الصلبة

ما الذي يجمع بين أنماط الشخصية التسلطية لأعضاء حركة «طالبان»، و«داعش»، و«القاعدة»، والحركات الإسلامية المتطرفة، والنازيين، والفاشيين واليمين المتطرف عامة في أوروبا أو جماعات العرق الأبيض المتفوق التي عبر عنها إرهابي واقعة المسجدين في نيوزيلندا أو إرهابي أوكلاهوما؟
بمعنى آخر؛ ما النسق العقائدي الذي يجمع هؤلاء جميعاً؟ بكل تأكيد ليس الدين ولا الثقافة ولا التاريخ ولا اللغة أو المنطقة الجغرافية، بل الميسوجني أو التوجهات الفردية (المعادية للمرأة وحقوقها).
باختصار شديد، فإن القاسم المشترك بينهم ليس كراهية الآخر فقط، بل المكون الذكوري المعادي للمرأة، والنظر إليها في سياق التبعية الطبيعية للرجل، واختزال كينونتها في الوعاء الجنسي المكون لهويتها الإنسانية، بدلاً من النظر إليها بوصفها كالرجل ذات مفكرة واعية وحرة ومستقلة. وهذه النظرة الذكورية المشتركة بين هؤلاء تعد مسؤولة بشكل كبير عن إنتاج التوجهات والنزعات التسلطية حيال المرأة، وتحذر من خطاب الكراهية والعنف نحو الآخر. وفي هذا السياق، فإن الآيديولوجيا التي تعتنقها تلك الشخصيات التسلطية ليست إلا قناعاً مضللاً أو أداة وظيفية وهمية؛ سواء في صيغتها الإسلامية أو المسيحية أو العرقية من أجل تسويغ الترميز الجنسي للمرأة، واضطهادها، والحط من قدراتها الذهنية والفكرية والعاطفية، واستلاب حقوقها الإنسانية. والهدف من هذا التصور الازدرائي للمرأة هو الحفاظ على قوة ومكتسبات الرجل في موازين القوى والتفاعلات الاجتماعية. وفي الغالب، فإن المجموعات أو التنظيمات غير الرسمية كوحدة متوسطة، أو المجتمعات كوحدة إنسانية أكبر منها، التي تُحكم بترميزات جنسية ومعايير ذكورية معادية لحقوق المرأة وحرياتها تفرز أنماطاً للشخصية التسلطية تكون على الأرجح أكثر ميولاً للتسلط والعنف وإقصاء الآخر بالعنف اللفظي أو الحسي. أو بلغة فريدو - ماركسية فإن معاداة المرأة هي البنية التحتية لإنتاج تلك الشخصيات التسلطية، في حين أن الدين والثقافة والآيديولوجيا تظل مجرد بنى فوقية لتسويغ هذا القمع الجندري المنظم.
وفي الواقع، فإن الرغبة في إعادة إنتاج هذا المجتمع الجندري المتشدد في أفغانستان هي ما أثارت حالة الشك واللايقين عند الجماعات الحقوقية عبر العالم. وما فاقم من تلك المخاوف ادعاء حركة «طالبان» بأنها ستمنح المرأة والأقليات الدينية حقوقها بما يتسق مع متطلبات الشريعة الإسلامية من دون الإشارة إلى أي أفق تأويلي ستعتمد عليه الحركة لقراءة حقوق المرأة ضمن الشريعة الإسلامية: هل هي القراءات الحداثية المتنوعة وفق الصيغ الشرعية المتسامحة مع حقوق وحريات المرأة؟ أم التشبث بإعادة إنتاج تأويل أحادي للنص متشدد في فهم مقاصد الشريعة، ومتوغل بالنظرة الذكورية الضيقة لتلك الحقوق والحريات؟
ويتوقع بعض الباحثين والباحثات في الشأن الإسلامي، أن تقوم «طالبان» بتنفيذ حكم صارم مناهض للمرأة على أساس التأويل الذكوري الضيق للشريعة الإسلامية. وتنبع هذه القناعة المتشائمة من السجل التاريخي لنظام «طالبان» فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين، حيث احتل المجتمع الطالباني المرتبة الأخيرة باستمرار في المعايير العالمية لحقوق المرأة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. كما قام مسؤولو «طالبان» بسن واحدة من أكثر السياسات المتحيزة ضد المرأة في العالم التي تقر بانعدام أهلية المرأة على الالتحاق بالمدرسة، أو تقلد المناصب العامة، أو التمثيل في الحكومة. وقد كان الأمر أكثر دراماتيكية وسوداوية في الحياة الاجتماعية اليومية، حيث فرضت حركة «طالبان» قواعد ومعايير صارمة في غاية التشدد للباس النساء بناءً على تفسيرات مغالية للموروث الإسلامي. وفي تلك الحقبة التاريخية، كان النساء يرتدين ملابس تغطي الجسم بالكامل عدا عين واحدة، ويتم فصلهن بشكل كلي عن الرجال في الأماكن العامة. وفي العهد الطالباني أصبح الفصل الصارم بين الجنسين تشريعاً وعرفاً اجتماعياً مركزياً في أفغانستان، كما واجهت النساء في تلك الحقبة قيوداً شديدة على التنشئة الاجتماعية والاختلاط والتواصل الإنساني بكل أنواعه مع الرجال، في كل المجالات العامة للحياة اليومية.
وقد ارتبط إقصاء المرأة من المجال العام ارتباطاً وثيقاً بهيمنة الذكور في المجال الخاص للحياة الاجتماعية داخل الأسرة والمنزل، حيث تم تشريع الولاية الخاصة للرجل على فهم متشدد للقوامة الذكورية التي استندت في كثير من صورها على تأويلات فقهية تسوغ الشطط الذكوري في الاستخدام المبالغ فيه لتلك السلطة الخاصة. ولذلك أفرطت وغالت تلك الولاية الذكورية في الهيمنة بشكل واسع على كل مناحي الحياة الاجتماعية الخاصة بالمرأة، وعلى قدرتها على صناعة أي قرارات مستقلة، والتعامل معها من منطلق قصورها في النضج الاجتماعي والنفسي والفكري ومعايير الرشد والعقلانية. وعلى الرغم من وجود هذا النظام الذكوري الصارم في عدد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة المتشددة، فإن حركة «طالبان» انتبذت بنظام الولاية مكاناً قصياً في عالم الهيمنة الذكورية المتطرفة. فوفقاً لعدد كبير من التقارير الدولية، فقد منح نظام الولاية لولي أمر المرأة الحق الشرعي في التحكم في نساء بيته مهما بلغن من الكبر عتياً، باعتبارهن قاصرات في الوعي والإدراك المعرفي، وبالتالي فوضت «طالبان» لولي الأمر - باعتباره الحاكم على المرأة ومؤدبها - الحق الشرعي في تقييد حركتها وسلبها حقوقها في إطار التفسير الصارم للشريعة الإسلامية.
والأسوأ من ذلك كله، أن جميع صور العلاقات بين الجنسين، والفصل الصارم بينهما، وفرض لباس متشدد على المرأة، وتشريع نظام الولاية الذكوري المتشدد، تم الإشراف عليها وفرضها بصرامة من قبل شرطة الأخلاق الدينية. وقد تم تكليف هذه المؤسسة بمسؤولية القمع المؤسسي للمرأة والرجل على السواء.
وفي حقيقة الأمر يمكن أن توفر عودة «طالبان» ذات التوجه العام المعادي للمرأة إلى السلطة نمطاً لنموذج تركيبة اجتماعية أطلق عليها «مجتمعات الأنا العليا الصلبة» (Hard Superego Society). ويمكن تعريف هذا النموذج الاجتماعي باعتباره «تنظيماً لليبدو الذكوري المتطرف الذي يمارس فيه الفاعلون الرسميون وغير الرسميين بشكل منهجي القمع الجندري المنظم، حيث يتم توجيه كثير من حالات التعبئة الجندرية، وتسويغ استخدام أشكال العنف اللفظي وغير اللفظي نحو مجموعات موصومة جنسياً ينظر إليها بوصفها تهديداً للنظام الذكوري القائم». وغالباً ما تستهدف حالات التعبئة الجندرية العنف اللفظي وغير اللفظي ضد النساء والرجال الناشطين في مجالات الدفاع عن حقوق المرأة،.
الجدير بالذكر أن هناك أربعة مكونات أساسية تشكل هوية مجتمعات الأنا العليا الصلبة: الفصل الصارم بين الجنسين، والولاية الذكورية المتشددة، وفرض لباس معين على المرأة، ووجود شرطة دينية ترصد وتراقب وتعاقب على انتهاكات العناصر الثلاثة المذكورة. ولا تقتصر هذه المعايير الأربعة المعادية للمرأة على المجتمع المتوقع الذي ستحكمه حركة «طالبان»، إذ من الممكن رصدها في جميع المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية المتشددة الأخرى كـ«القاعدة» و«داعش» في سوريا والعراق، و«بوكو حرام» في نيجيريا، و«أبو سياف» في الفلبين، وغيرها من المناطق التي استولت عليها الجماعات الإسلامية المتطرفة. فهناك نمط واضح ومتكرر من إعادة إنتاج نفس مجتمعات الأنا العليا الصلبة بعناصرها الأربعة في تلك المناطق التي تسيطر عليها هذه الجماعات، أو الأقاليم والمناطق التي من المتوقع أن تديرها في المستقبل. وعلى الرغم من أن هناك أنماطاً وأشكالاً متنوعة لهذا النموذج النظري، متأثراً بالسياقات التاريخية والبنى الثقافية لكل مجتمع، فإنه يمتلك قدرة تنبؤية عالية في سياق المناطق التي تدار بواسطة القوى الإسلامية المتشددة.
وضمن هذا السياق، لا بد من الإشارة والإشادة معاً بالتحول التاريخي للبنية الجندرية في المجتمع السعودي، ونقلها من مجتمعات للأنا العليا الصلبة إلى أن تكون أقرب لصور مجتمعات الأنا العليا الناعمة (Soft Superego Society)، بإرادة سياسية حازمة لولي العهد. فصناعة التاريخ لهذا التحول الانتقالي في حقوق المرأة ما كان ليتم بهذه الصورة المنشودة من دون وعي سياسي حقيقي بمخاطر الانزلاق نحو إنتاج شخصيات متسلطة تسوغ استخدام الدين بمنهجية ذكورية متعالية لاستلاب الحقوق المشروعة للمرأة. ولذلك ومن منطلق الإرادة الواعية لحركة التاريخ؛ فكَّك ولي العهد المكونات القاسية التي تنتج مجتمعات الأنا العليا الصلبة، فجاءت القفزة التي سمحت للمرأة بارتداء اللباس الذي يتسق مع قواعد ومعايير الذوق العام والاحتشام الشخصي، وجاءت التفسيرات المرنة للشريعة على واقع ولاية الرجل على المرأة والتي أفضت إلى السماح لها بالسفر، وقيادة المركبة، والتسجيل في المدارس والبنوك من دون تعريف أو موافقة من وليها، والانخراط في سوق العمل بشكل غير مسبوق، وتسنم الوظائف الإدارية والقيادية العليا، والتمثيل في مجلس الشورى بمعدلات عالية، والانخراط في القطاعات العسكرية، وما يعادل ذلك أهمية هو التقنين والترشيد العقلاني للسلوك المؤسسي لرجال الحسبة. ومن المؤسف أن المنظمات الدولية تغاضت عن كل مؤشرات تمكين المرأة في السعودية التي كانت محط نقد منهجي مستمر لها منذ عقود.
وأخيراً لقد مكنت الإرادة السياسية الحالية عقل التاريخ من التحرر والانعتاق من تابوهات التأويلات الدينية الذكورية المتشددة، وعملت على تحقيق شرط التكافؤ المرن بين الجنسين، والاعتراف الاجتماعي والقانوني بأن المرأة واعية وحرة تشاطر الرجل هبة العقل والوعي والإدراك، ذلك العقل الذي قال عنه ديكارت إنه هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي، والذي بموجبه يشهد المجتمع السعودي نقلة نوعية في الطفرة الجندرية، ومفارقة تاريخية طموحة تنقله من مجتمعات الأنا العليا الصلبة إلى مجتمعات الأنا العليا الناعمة بمشاركة واعية للمرأة ولإنجازاتها الكبرى التي تعادل الرجل وتتجاوزه في بعض الأحيان. وإن كان شرط المساواة لم يتحقق كلياً ويسير ببطء، فإنه في المسار الصحيح نحو ذلك، وهنا تكمن إرادة حركة التاريخ.