علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

أسئلة سقطت من رجاء النقاش في تناوله «مذبحة» أنور الجندي

قلنا في مقال الأسبوع الماضي إن رجاء النقاش لم يتبادر إلى ذهنه أن يسأل لماذا تخلى أنور الجندي عن هذا الدور النقدي في مرحلة متأخرة جداً من حياته الأدبية والفكرية، فصنع كتاباً عن طه حسين بُعيد وفاته ببضع سنين، لا يعد ما جاء فيه (نقداً)، فما جاء فيه – كما عبر هو بدقة – «مذبحة كاملة لطه حسين»؟
ربما لو كان سأل نفسه هذا السؤال، لما كان حكم على غاية أنور الجندي من تأليف ذلك الكتاب، حكماً ظاهرياً.
هذا السؤال الذي فات رجاء النقاش أن يطرحه على نفسه، وسأجيب عن هذا بعد أن أضيف إليه ثلاثة أسئلة تدور في فلكه.
المعلومات الإدانية والاتهامية لطه حسين التي سردها في كتابه عنه، يعرفها كاملة منذ تركيزه على الكتابة الأدبية والثقافية العامة في أول الخمسينات، ويعرف شيئاً منها حينما بدأ الكتابة في مقتبل شبابه، وكانت البداية بداية أدبية في الثلاثينات الميلادية، فلماذا تأخر سرده لها إلى عام 1976؟!
في المنتصف الأخير من الأربعينات الميلادية وفي ظل كتابته الإسلامية الإخوانية الأولى كان يعرف آراء طه حسين المصادمة لآراء الأدباء المحافظين وآراء الدينيين الأزهريين، فلماذا لم يعبر عن اختلافه معه في ظل تلك المرحلة المشبوبة بإسلاميتها الحركية؟!
لماذا انقلب فجأة في منتصف السبعينات إلى كاتب إسلامي شرس وعدواني ضد أسماء في الأدب والثقافة والسياسة في مصروفي بعض البلاد العربية، كان يكتب عنها قبل تلك الفترة إما بطريقة محايدة وإما بطريقة تقريظية؟!
بعد صدور الجزء الأول من كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) عام 1954، طرأ على محمد محمد حسين تحول فكري نحى به إلى اتجاه إسلامي أصولي. وهذه ما وضح أثره في الجزء الثاني من كتابه الذي صدر عام 1956.
هو رأى أن هذين الجزأين متناقضان، فطبعهما معاً في طبعة واحدة عام 1962 بعد أن أدخل تعديلاً على الفصل الأخير من الجزء الأول يتسق وتحوله إلى الأصولية الاسلامية، رغم أن هذا الفصل كان قد كتبه برؤية أكاديمية محايدة.
مقالاته الأزهرية التي كتبها ابتداء من عام 1956، والتي ضمت في كتاب عنوانه (حصوننا مهددة من داخلها – في أوكار الهدامين) صدر عام 1967، كتبها إبان ذلك التحول الأصولي الحاد.
وهذا الكتاب ضم إليه محاضرتين ألقاهما في الكويت عام 1966، وكان عنوانهما (الإسلام والحضارة الغربية).
بعمليه هذين اختط محمد محمد حسين خطَّاً جديداً في الكتابة الاسلامية المعاصرة، كان أول ثماره كتاب غازي التوبة (الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم) الذي صدر عام 1969.
في كتاب لأنور الجندي عنوانه (مفكرون وأدباء من خلال آثارهم) أرّخ لكتابة مقدمة هذا الكتاب بشهر يناير عام 1967، كتب عن 39 شخصية، كان أحدهم محمد محمد حسين. وكان من ضمن ما كتبه عن هذه الشخصية المتحولة تحولاً فكرياً حاداً، تقديم تلخيص محاضرتيه في الكويت المعنونة بــ(الإسلام والحضارة الغربية). وقد قال في هذا التلخيص: «ومن أهم ما خلص إليه الدكتور محمد حسين في دراساته، ذلك الموقف الذي يقفه من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وهو موقف ليس جديداً بالنسبة للعاملين الإسلاميين فقد سبقه إليه كثيرون، ولكن الجديد أنه تناوله على نحو بعيد عن الهوى، وبمنهج علمي أساسه الحاجة الشديدة إلى تقويم الرجال».
ولأن استخدامه لمصطلح الإسلاميين في هذا المقام موهم وملبس، أوضح أنه يعني بهم خصومهما من الدينيين التقليديين، ولا يعني بهم الإسلاميين بالمعنى المتداول والمستقر لمصطلح الإسلاميين.
ذلك أن كتابة محمد محمد حسين لسيرة الأفغاني وعبده واستعراض آرائهما في التجديد الديني بطريقة مضادة وهدمية، هي كتابة لم يسبقه أحد فيها من الإسلاميين بالمعنى المتداول والمستقر في استعمال هذا المصطلح. كتابته هذه عنهما أثرّت في الإسلاميين فغدا هذان الرائدان في الفكر الاسلامي الحديث عندهم متهمين في إسلامهما بدءاً من أواخر الستينات الميلادية. واتسع نطاق تبنى موقفه المعادي لهما عند الإسلاميين رويداً في السبعينات الميلادية. ومع أواخر السبعينات وأواخر الثمانينات الميلادية تبنى أكثريتهم هذا الموقف على مستوى الخطاب الديني العام وعلى مستوى الخطاب الديني الأكاديمي المتخصص في رسائل جامعية.
وقد انتظر أنور الجندي وقتاً طويلاً ليحاكي محمد محمد حسين في الطريقة التي اتبعها في الكتابة عن الأفغاني وعن عبده. فكتابه عن طه حسين كان على وجه التحديد محاكاة لطريقة محمد محمد حسين في الكتابة عن الأفغاني وعبده.
أما لماذا انتظر كل هذا الوقت ليحاكي محمد محمد حسين في طريقته، فالإجابة عنه هي الإجابة نفسها عن السؤال الأساسي وعن الأسئلة الإضافية.
بعد خروج أنور الجندي من السجن في يناير (كانون الثاني)، عام 1950، انفصل عن الإخوان المسلمين، وكان من كتبة (بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة) الشيخ حسن البنا. واتجه إلى التركيز على الكتابة الأدبية والثقافية العامة. وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، أيدها بقوة، ولم يؤثر صدام الإخوان المسلمين مع رجال الثورة والذي انتهى بمحاولتهم اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954، وسجن كثيرين منهم وإعدام ستة إخوانيين بعد تلك الحادثة على تأييده القوي لها بشيء.
وكان من آيات تأييده لها، وبوجه خاص لقائدها جمال عبد الناصر، تأليفه عام 1956، كتاب (جمال عبد الناصر وكفاح الشعب)، وتأليفه عام 1960 كتاب (هذا هو جمال من بني مُر إلى الجمهورية العربية المتحدة) وتأليفه عام 1961 كتاب (معركة المقاومة العربية).
وما حصوله على جائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1960 – بصرف النظر عن إن كان يستحقها أو لا يستحقها – إلا بيّنة كبرى على رضا حكومة جمال عبد الناصر عليه.
ومما زاد سخط الإخوان المسلمين عليه هو اشتراكه بمقال في كتاب (رأي الدين في إخوان الشياطين) عنوانه (التعصب أو الإرهاب أو العنف)، والذي صدر عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 1965. وقد اعتبروا مقاله هذا خطيئة دينية لا تغتفر.
في منتصف السبعينات الميلادية كانت سوق الكتاب الإسلامي تزدهر، فرأى لسببين، أن يرجع كما كان في المنتصف الأخير من الأربعينات الميلادية كاتبا إسلاميا محضا.
السبب الأول، سبب مالي فهو يعتمد في كسب رزقه القليل على تأليف الكتب وكتابة المقالات الصحافية التي كأنها صفحات منتزعة من كتبه كيفما اتفق.
السبب الآخر، مع تحالف أنور السادات مع الإخوان المسلمين ابتداء من أول السبعينات الميلادية واستمراره في منتصفها زال عنه الرهاب السياسي في إعلان التودد والتقرب من رفاق الأمس.
أنور الجندي كان قد رأى أن كتاب غازي التوبة (الفكر الإسلامي المعاصر: دارسة وتقويم) الذي هو أثر من آثار محمد محمد حسين، والذي خُصّ فيه طه حسين ومعه عباس محمود العقاد بفصل من فصوله الثلاثة، كتاب رائج في سوق الكتاب الإسلامي، فعزم على تخصيص كتاب اتهامي كامل عن طه حسين أوفر في معلوماته الاتهامية وأوسع من معلومات الكتاب السالف، وهو القادر على ذلك بكل يسر وسهولة، بسبب إحاطته بالثقافة المصرية، إحاطة أرشيفية شاملة ودقيقة منذ عصر نهضتها الحديثة.
وقد تأتّى له ذلك من تردده الطويل المنتظم على دار الكتب المصرية وعلى مكتبة معهد الدراسات العربية. وكان له فيهما مقعد ثابت. وكان يقرأ فيهما بلا كلل كل الصحف والدوريات والحولِّيات الموجودة فيهما ويدوِّن ما يحتاج إليه منها من المعلومات.
ومع أن خطيئته عند الإخوان المسلمين كانت لا تغتفر لكنهم غفروها له، لأنهم لمسوا استفادتهم منه في جانب يجهلون الكثير عنه. وهي معلوماته الأرشيفية التي قام بأسلمتها بشراسة وعدوانية مع عودته إلى الكتابة الإسلامية المحضة، فروجوا لكتبه على نطاق شاسع.
في رد رجاء النقاش على كتاب أنور الجندي، كان قد التقى بمحمد محمد حسين لكن من دون أن يعلم بذلك!
وهذا ما عنيته بقولي: إن لقاءاته الثلاثة به في أواخر السبعينات الميلادية من نوع مختلف عن لقائه السري به في مجلة «الآداب» البيروتية عام 1957. وللحديث بقية.