يونـس سليمـاني
صحافي جزائري يشرف على الشؤون الدولية في «الشرق الأوسط»
TT

الجزائر… و«العهد الجديد»

خلال الشهر الحالي يُنهي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون سنتين من عهدته (الأولى) المحددة بخمس سنوات، وذلك بعد أسابيع قليلة من تنظيم الانتخابات المحلية واستكمال إعادة بناء آخر مؤسسات الجمهورية.
مع بلوغ هذه «المحطة» والخروج نظرياً من المرحلة الانتقالية غير الرسمية التي فرضها «حراك 22 فبراير 2019»، تكون ملامح العهد الجديد قد تجلّت بشكل أوضح.
الرئيس تبون (76 عاماً) شخصية لم تكن معروفة على نطاق واسع خارج بلده قبل توليه السلطة، لكنه في الداخل مارس الشأن العام وخبره طويلاً. هو أول رئيس للجزائر المستقلة، قادم من خلفية غير عسكرية ويملك في جعبته تحصيلاً علمياً جامعياً. تخرّج عام 1965 من «المدرسة الوطنية للإدارة»، خزّان تكوين الإطارات والمسؤولين في البلاد، ثم خدم في دواليب الدولة، أكثر من أربعة عقود، والياً ووزيراً ورئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية.
عندما طُرح اسمه للمنصب الكبير، جادل الرافضون أنه مرتبط بـ«عهد العصابة»، إلا أنه كان في الحقيقة قد اصطدم بـ«العصابة» ومالِها الفاسد، قبل سنتين من إطاحتها، وكلّفه ذلك منصبه على رأس الحكومة آنذاك.
بعد فترة قصيرة على دخوله «قصر المرادية»، أصيب بفيروس «كوفيد-19»، ما تطلّب علاجه شهوراً طويلة في الخارج، لقي أثناءها تعاطفاً إنسانياً واسعاً ربما ساعده سياسياً. التناغم بينه وبين أركان الحكم الآخرين كان أهم عامل ساعد في تمرير «الحل الدستوري» أو فرضه، من دون اللجوء إلى «مرحلة انتقالية رسمية» أو «جمعية تأسيسية»، وواضح أن إحساساً جمعوياً بصعوبة المرحلة تشكّل داخل البلد وأسهم في الالتفاف.
هذا الالتفاف ساعد في إعادة بناء المؤسسات في وقت وجيز وأمّن البلد من شبح الفراغ. وخلال هذه الفترة الوجيزة، بنى الرئيس تحالفاً داخلياً غير معلن ضم أحزاباً ومنظمات من الموالاة التقليدية والجديدة، بينما باتت أحزاب المعارضة غير فعّالة في المشهد، أما قوى «الحراك» فيبدو أنها دفعت نفسها، أو دُفعت، نحو أقصى حدود المسموح به.
على المستوى العام، تبدو رئاسة تبون أقرب إلى الاستمرارية، ذلك أن «الإنجازات» شملت التفاصيل ولم تطل الكليّات. أنصاره يقولون مثلاً إنه باشر بإجراءات استعادة الثقة، ووفّى بوعوده الخاصة بتشبيب المناصب التنفيذية، وعزّز التواصل الإعلامي لتكريس الشفافية وتسهيل المحاسبة، ويُعدّ لإنشاء هيئة لمراقبة الأداء التنفيذي، لم تكن موجودة على الإطلاق. يقولون أيضاً إنه لفت الانتباه، للمرة الأولى، إلى وجود الآلاف من «مناطق الظل» المحرومة في البلاد، وخصّص لها برامج تنموية، رغم أن المعارضين يقولون إن الفكرة لم تحوِ جديداً وأن المطلوب رؤية طويلة الأمد للتنمية.
اقتصادياً، استمر الرئيس في النهج الرافض للعودة إلى الاستدانة الخارجية، مستعيناً بالتعافي المتذبذب لأسعار المحروقات، وأعلن عزمه إعادة إطلاق مشاريع صناعية كبرى تخلت عنها الحكومات السابقة. وجّه بمراجعة اتفاق الشراكة المبرم مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995 «لأنه مُجحف بحق الطرف الأضعف». وتمثل مبادرة حكومته لرفع (أو تنظيم) الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية الاختبار الحقيقي والخطير أمام سياساته الاقتصادية - الاجتماعية مستقبلاً. وعلى المستوى الدبلوماسي، استحدثت حكومته مؤتمراً غير مسبوق لسفراء الجمهورية وقناصلها في العالم «لبلورة رؤية للدفاع عن المصالح الاستراتيجية للبلاد».
وتبقى المواقف الخارجية أكثر جلاء، إذ استمرت حكومة تبون في إعطاء الأولوية لدول الجوار باعتبارها عمقاً للأمن القومي. حرّكت الدبلوماسية لدعم الاستقرار في ليبيا، ولعبت دوراً لافتاً في استحداث آلية «دول الجوار» في حل الأزمة الليبية. فرضت حضور الجزائر في مؤتمري «برلين 1» و«برلين 2»، ونظّمت «مؤتمر دول الجوار الليبي» بمشاركة عالمية واسعة في العاصمة الجزائر. وفي العلاقات المتوترة عادة مع المغرب وفرنسا، اتخذت «إجراءات عقابية» غير معهودة لكن مع مؤشرات على تفادي انزلاق أخطر. وفي القضايا البعيدة جغرافياً، حافظت على النهج التقليدي في المسألة الفلسطينية، وأطلقت مبادرات للتوسط في أزمات وحالات بعيدة (سد النهضة الإثيوبي واستضافة الفصائل الفلسطينية) أملاً في استعادة الأدوار التاريخية.
ما يُلاحظ في هذا التوجه، أن السياسة الخارجية للجزائر، رغم هويّتها، تبدو في تراجع مقارنة بتألقها التاريخي، أولاً بسبب المشاكل الداخلية وثانياً لأنها لا تزال حبيسة العمل التقليدي. إنها تبدو متأخرة عن توظيف أدوات القوة الناعمة في التأثير، وهو التوجه المتنامي إقليمياً ودولياً. هناك صعود لافت في المنطقة لاستخدام لأذرع إعلامية واستثمارية ورياضية وفنية تتجاوز في التأثير العمل الدبلوماسي التقليدي. والجزائر لها كل الإمكانات لولوج هذا الطريق.
خلاصة القول، تبدو حصيلة حكومة تبون خلال سنتيها الأوليين، متداخلة صعوداً وهبوطاً، وقد يكون من المبكر تحديد خلاصات نهائية، خصوصاً في ظل ثقل إرث الحكم السابق وتعقيدات الوضع. ويبقى السؤال الهام مطروحاً: إلى أي حد سيكون هذا الأداء الجزئي أساساً لإصلاح أكبر؟