وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

العلاقة بين ميزانية الدولة وسعادة المواطن

في عصر مضى كان الإعلان عن الموازنة العامة المالية للدولة «الميزانية»، في السعودية، أمر تاريخي. وكان الكل يجتمع حول التلفاز والراديو ليستمع إلى إعلان الموازنة، حتى وإن كان الكثير من الناس في ذلك الوقت لا يفهمون ما يقال.
كانت البهجة تعمّ عند الإعلان ولربما كان الإحساس بأن الوطن بنعمة وخير هو ما يدخل الفرحة إلى نفوس الجميع، خصوصاً أن السبعينات ومطلع الثمانينات كانت تمثل عصر الطفرة عندما كانت الدولة تغدق على الجميع الثروات. ولهذا كل ما زاد ثراء الدولة زادت مداخيل المواطنين حينها.
كانت الأمور وتوزيع الثروات أسهل بكثير عندما كان التعداد أقل، وكان الإنفاق يذهب على بناء البنية التحتية الرئيسية وإدخال الكثير من الخدمات الأساسية إلى حياة الناس.
في ذلك العصر كانت مؤسسات الدولة قليلة العدد وكان من السهل توظيف عدد أكبر من المواطنين في كل مرة يتم إنشاء مؤسسة جديدة، ولهذا كان المواطن ينتقل إلى الثراء بسرعة عالية مع كل إعلان للموازنة.
انتهت الطفرة وأصبحت الميزانية لا تعني الثراء السريع للمواطنين وتكدست المؤسسات بالعاملين السعوديين ولم يعد الإعلان عن فوائض أو إنشاء مؤسسات يعني زيادة هائلة في التوظيف.
ودخلنا عصر التسعينات ورأينا أسعار النفط في تقلب كبير وبدأت الدولة في الاقتراض وشد الحزام وتقليص النفقات وإعادة جدولة الكثير من المشروعات. وظهرت مفاهيم جديدة على المواطن مثل الخصخصة، وبدأت الدولة في تحميل القطاع الخاص عبء التوظيف معها.
ثم عادت الأمور إلى التحسن نوعاً مع منتصف العقد الأول من الألفية الثانية بسبب نمو الصين وارتفاع الطلب على النفط. عادت الحياة إلى الدولة مجدداً وبدأت وزارة المالية الضخ في الاقتصاد ولكن للأسف لم تكن هناك استدامة مالية لأن التخطيط غير جيد والفساد منتشر ولم تكن هناك استثمارات حقيقية للدولة.
ثم دخلنا في عام 2016 وبدأت الدولة في الإصلاح الاقتصادي، وظهرت مفاهيم جديدة أخرى مثل الضرائب وخصخصة الخدمات وبدأت الدولة في الاستثمار داخلياً وخارجياً في قطاعات جديدة مثل السياحة والترفيه، وفي مشاريع كبرى مثل «نيوم» و«البحر الأحمر» و«القدية وتطوير العلا والسودة والدرعية.
هذه المشروعات لن يرى المواطن أثرها الآن ولن يكون أثرها على التوظيف والدخل لحظياً. لم تعد الموازنة هي الموازنة وفرحة الناس بها مثل السابق ومن هنا ظهرت فجوة كبيرة بين الموازنة وسعادة الفرد.
المواطن لا يريد استثمارات طويلة الأجل، بل يريد إنفاقاً مباشراً يشعر بأثره على جيبه الخاص وحسابه المصرفي. والمواطن لا يريد دفع شيء للدولة لأن هذا الأمر حديث عهد، وحتى وإن لم يكن حديث عهد فلا أتصور أن أي مواطن في العالم يحب الضرائب ودفع شيء للدولة.
إنّ تقبُّل الإصلاحات ودفع ضريبة للدولة ليس سهلاً، وكان المواطن يتساءل: لماذا لا تذهب الدولة لاستعادة الأموال من السارقين والفاسدين؟
وهذا ما حدث عندها تغيرت نظرتنا للأمور. وزادت الشفافية في مالية الدولة العامة، وعدنا لبناء احتياطيات مالية واجهت الدولة من خلالها إعصار فيروس «كورونا»، ولولا دخل الضرائب لما بقيت الدولة صامدة وتمكنت من إعادة الحياة لطبيعتها بشكل سريع العام الماضي.
إن التحولات التي يمر بها الاقتصاد والإصلاحات المالية والاقتصادية في غالبها شاقة وتخلِّف بعض المرارة، ولكن على الأقل ندين بالفضل لها اليوم بعدم فقداننا دخلنا ووظائفنا مع جائحة «كورونا».
ولا أمانع أن أرى بعضاً من دخلي يذهب لبناء احتياطيات تساعدنا على مواجهة المجهول. وحتى نكون منصفين فإن هناك قطاعات تأثرت بشدة بلا شك وليست الأمور جميلة لدى الجميع ولكنها لم تكن بشعة مثل ما كانت خارج حدود المملكة.
في النهاية لا أعلم إذا ما كان مواطن اليوم سيدرك أهمية الهندسة المالية الجديدة، وقد يتطلب هذا وقتاً وجهداً. ولكن قد يساعد رفع مستوى الشفافية حول الاستثمارات في زيادة ثقته بالمستقبل، لقد حققت الدولة نجاحاً كبيراً على مستوى الشفافية في الدخل والإنفاق من خلال إعلانات الموازنة المستمرة، ومن المهم أن يطبق نفس مستوى الشفافية التي وصلنا لها في الموازنة على باقي المؤسسات والاستثمارات حتى يطمئن قلبه.