سليمان الحربش
TT

«أوبك» تعود إلى مسقط رأسها بغداد

في الرابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) 1960 التأم شمل خمس دول في بغداد، واحدة منها لم يكتمل استقلالها، وقرر المؤتمرون في الشق الثاني من أول قرار يُصدرونه إنشاء المنظمة بأهدافها المعلنة والتي تشكّل صلب ميثاقها المعروف، ثم حصلت «أوبك» على اسمها وشهادة ميلادها بعد أن صادقت الدول الأعضاء على القرار الأول، تَمثّل ذلك في المملكة العربية السعودية بالمرسوم الملكي الذي أصدره الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، برقم 51 لشهر رجب 1380 من الهجرة (أواخر عام 1960 وأوائل 1961).
وتكاد «أوبك» تنفرد بأنها نشأت بدافع من إرادة سياسية حرة، لا بوحي من قوى خارجية.
ومن يرصد بإنصاف سيرة «أوبك» سيلاحظ ذلك، كما سيلاحظ أن المملكة العربية السعودية من أكثر الدول الأعضاء إيماناً برسالة المنظمة، ولذلك وفّرت لتنفيذ تلك الرسالة ستة من أكفأ الوزراء الذين شهدتهم المنظمة، منهم من شارك في صنع الأحداث التي شهدتها السوق البترولية ومنهم من تفاعل معها ومنهم من تصدى لتلك الأحداث وأبلى بلاءً حسناً في التعامل معها.
عملتُ مع خمسة من هؤلاء الوزراء مرؤوساً أو زميلاً، رحم الله مَن غادر منهم هذه الدنيا وأمدّ الباقين بالصحة والعافية.
عملتُ مع «أوبك» من كثب؛ حضرت بصفة مراقب اجتماع ما تعرف باللجنة الاقتصادية عام 1968، وحضرت عضواً في وفد المملكة في مؤتمر المنظمة عام 1969، وكنت على مقربة من الوزير المرحوم الشيخ أحمد زكي يماني وهو يجيب عن سؤال للصحافي الوحيد الذي غطى المؤتمر، إذ لم تكن «أوبك» أو الوزير السعودي مصدر اهتمام الصحافة البترولية في ذلك الوقت، وقد انقلبت الأوضاع رأساً على عقب مع حلول عقد السبعينات وما صاحبه من أحداث أرْخت سدولها على السوق البترولية.
خلال الفترة 1990 – 2003 عُينت محافظاً لـ«أوبك» للمملكة العربية السعودية واقتربتُ أكثر من المنظمة والأمانة العامة ومَن تعاقب عليها، ومثّلت المملكة في عدد من اللجان التي كُلِّفت النظر في موضوع معين، ومن ذلك استراتيجية المنظمة التي سيَرِد ذكرها، ورُشحت لمنصب الأمين العام بعد شغور المنصب عام 1999، لكنّ إيران اعترضت على هذا الترشيح رغم كل ما بذلناه من جهود دبلوماسية، وتكرر المشهد عندما رشحت المملكة في فترة لاحقة الزميل الدكتور ماجد المنيف.
هذه العلاقة الحميمة جعلتني أتابع ما يصدر عن المنظمة من أخبار وبيانات تؤثر على الاقتصاد العالمي والسوق البترولية، ومن ذلك الخطاب الذي افتتح به عن بُعد وزير البترول الأنغولي الدورة الثانية والثمانين بعد المائة لمؤتمر المنظمة يوم 1 ديسمبر (كانون الأول).
الخطاب وثيقة جميلة لما تمر به المنظمة من تطورات، تحس وأنت تقرأه بأنه يبشر بفصل جديد من حياة المنظمة، هذا الفصل يبدو والله أعلم أنه سيكتمل خلال اللقاء المرتقب للمؤتمر في بغداد، خلال الربع الأول من عام 2022، احتفالاً بالعيد الستيني للمنظمة الذي تعثر إتمامه بسبب الجائحة.
من خطاب رئيس المؤتمر نستطيع أن نستخلص أجندة المحتفلين في بغداد على النحو التالي:
1- التعاون بين «أوبك» والمنتجين من خارجها: كرر الرئيس ثناءه وإعجابه بتنفيذ إعلان التعاون الذي يمر عليه خمس سنوات، وخص بالشكر كلاً من الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي، وألكسندر نوفاك نائب رئيس وزراء الاتحاد الروسي، لرئاستهما الاجتماعات المشتركة السابقة وكذلك اجتماعات لجان المراقبة الوزارية، وما أبدياه من كفاءة عالية.
مَن له صلة بميثاق «أوبك» يعلم أن عضوية المنظمة تأخذ شكلين؛ إما عضوية دائمة وإما عضوية مشاركة.
لكن العلاقة بين «أوبك» والدول المنتجة الأخرى لتنفيذ أهداف المنظمة كما وردت في ميثاقها تعد فتحاً جديداً لـ«أوبك»، لا شك أنه سيكون مادة دسمة للمحتفلين في بغداد، ومن يرصدون مسيرة المنظمة.
2- استراتيجية «أوبك» للأمد البعيد (Opec Long - term Strategy):
هذه الاستراتيجية مبادرة سعودية تعود إلى عام 1978 هدفها كما قال الرئيس «ترتيب أولويات المنظمة وتحديد اتجاهاتها من أجل تحقيق الأحلام التي راودت الرعيل الأول من الدول المؤسسة»، وقد مرت هذه الاستراتيجية بمراجعات متعددة كان آخرها لجنة الخبراء التي اجتمعت أكثر من مرة برئاسة الأمير عبد العزيز (مساعد وزير البترول في ذلك الوقت) ومن الواضح أن هذه الاستراتيجية تخضع لتحديث مستمر من السكرتارية، يأخذ بالحسبان ما تضمنه خطاب رئيس المؤتمر ومن ذلك موضوع فقر الطاقة.
3- القضاء على فقر الطاقة: هذه القضية واحدة من أهم القضايا التي شغلت دولنا، وتعود جذورها إلى قمة «أوبك» الثالثة التي عُقدت في مدينة الرياض في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2007، حيث نادى ملوك ورؤساء «أوبك»، استجابةً لاقتراح من الدولة المضيفة، بالبحث عن الوسائل الكفيلة بالقضاء على فقر الطاقة، وكلفوا لهذه المهمة صناديق التنمية، وخصّوا بالذكر صندوق «أوبك» للتنمية الدولية (OFID) الذي حوّل هذا التكليف إلى خطة عمل ارتبطت باسمه فترة طويلة. ويُحمد لـ«أوبك» إبقاء هذه القضية حية، فقد تولاها الأمير عبد العزير في بيانات وزراء الطاقة في مجموعة العشرين، ونوه عنها محمد باركيندو أمين عام «أوبك» في غلاسكو، والآن يتولاها الوزير الأنغولي رئيس مؤتمر «أوبك». وسوف تكون بارزة في احتفالات بغداد.
4- القضايا الأخرى... ويمكن حصرها في ثلاث:
الأولى- الاستعداد لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين في شرم الشيخ أواخر عام 2022 والتفاوض من منطلقات الحلول الشاملة التي لا تترك أحداً في قارعة الطريق كما يقول الرئيس.
الثانية- تزويد منتدى الطاقة الدولي بطاقة إيجابية هو في حاجة إليها دائماً، وذلك عن طريق اتخاذه منصة حافلة بالحركة نحو تعاون مثمر بين المستهلكين والمنتجين.
الثالثة- مد جسر من التعاون مع الصندوق الوحيد الذي أنشأته الدول الأعضاء مجتمعةً بعد قمة الجزائر 1975 وهو صندوق «أوبك للتنمية الدولية OFID» الذي وردت الإشارة إليه أكثر من مرة في البيان الختامي لقمة «أوبك» الثالثة التي استضافتها الرياض، والاستفادة من التجارب الثرية التي حققها «أوفيد» في التعاون مع شركات الطاقة والمؤسسات المماثلة في دراسة موضوع فقر الطاقة والحلول المبتكرة للقضاء على هذا النوع من الفقر، الذي يهدد ما يقرب من مليار نسمة ممن لا يزالون يحرقون الحطب والجلّة، في القرن الحادي والعشرين.