فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

تركيا وبلاد الشام: مشاهد مجهولة في حرب مشهورة

قبل ثمانين عاماً، هاجمت ألمانيا الفاشية الاتحاد السوفياتي، وانغمست جمهورياته، التي تحولت بعد مرور 50 عاماً على تلك المرحلة إلى دول مستقلة، في دوامة أكثر الحروب دموية ضد معتدٍ استمرت أربع سنوات، كلف النصر فيها روسيا وباقي جمهوريات الاتحاد السوفياتي تضحيات ضخمة.
هذه الحرب الوطنية العظمى كانت جزءاً من الحرب العالمية الثانية التي بدأت في 1 سبتمبر (أيلول) 1939 في أوروبا، وامتدت لتطال دول الشرق الأوسط، التي كان جزء كبير منها يرزح تحت وطأة التبعية الاستعمارية. للأسف، أن هناك دوائر معينة في عدد من الدول اليوم تحاول إعادة النظر في نتائج الحرب العالمية الثانية. يوجد مجموعة من المشاهد في تاريخ سنواتها الأولى (1939 - 1941) مفيد للغاية، حيث تم حفظ الأحداث التي وقعت في تلك الفترة في الذاكرة التاريخية للشعوب، وإلى حد كبير لا يزال لها تأثير على العلاقات بينها.
في كل مرة عند تصفحي لوثائق من المراسلات الدبلوماسية لتلك السنوات، أستنبط شيئاً جديداً ومفيداً لنفسي. أود في هذه المقالة تسليط الضوء على المشهديين التاليين المتعلقين بدور بعض البلدان في الشرق الأوسط. أذكّر هنا أن تركيا كانت في ذلك الوقت دولة غير محاربة، أؤكد «غير محاربة» وليست محايدة، ذلك لأنه منذ 19 أكتوبر (تشرين الأول) 1939. وقعت معاهدة مساعدة متبادلة مع بريطانيا وفرنسا. اضطرت روسيا حينها، التي كان لديها كل الأسباب لعدم الثقة بهذه القوى الأوروبية التي لم تدافع عن تشيكوسلوفاكيا من العدوان الفاشي، بل وشاركت أيضاً في تقسيمها في سبتمبر 1938، إلى أن توقّع رداً على ذلك في 23 أغسطس (آب) 1939 اتفاقية عدم اعتداء مع ألمانيا، بالإضافة إلى بروتوكول إضافي سري بشأن تقسيم مجالات النفوذ في أوروبا، مما جعل من الممكن تأجيل بدء الحرب المحتومة. من المدهش أن تشرشل، الذي فهم دوافع خطوة ستالين هذه، كتب في مذكراته أن موسكو كانت بحاجة ماسة للغاية لإبعاد المواقع الأولية للجيش الألماني إلى الغرب إلى أقصى حد ممكن. أما بالنسبة لتركيا، فقد وقّعت في وقت لاحق، في 18 يونيو (حزيران) 1941. معاهدة صداقة مع ألمانيا من دون أن تتنصل من المعاهدة مع البريطانيين.
يشير المشهد الأول الذي اطلعتُ عليه إلى أن الدول العربية كانت حينها لا تزال موضع أطماع الدول الأوروبية المتحاربة فيما بينها، وأن ألمانيا استغلت، في محاولتها لجر تركيا إلى جانبها في الحرب، إمكانية استيلاء أنقرة على جزء من أراضي هذه الدول كطعم لبلوغ هدفها.
لذلك، في 25 يونيو 1940، بعد احتلال ألمانيا النازية لفرنسا، وقبل نحو عام من الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي، جاء السفير الإيطالي أوتافيو دي بيبو بشكل غير متوقع إلى الممثل المفوض للاتحاد السوفياتي في أنقرة، أليكسي تيرينتيف (كما نتذكر، إيطاليا كانت إحدى القوى الأساسية الثلاث لما يسمى دول المحور إلى جانب ألمانيا الهتلرية واليابان)، وعلّق بشكل سرّي على تطور الأحداث المتعلقة بتركيا. بالمناسبة، كان سفير ألمانيا الفاشية حليفة إيطاليا في أنقرة مستشار الرايخ السابق فون بابن (الذي برأته محكمة نورنبرغ لاحقاً، وعاش حياة طويلة - 90 عاماً). رداً على سؤال تيرينتيف، الذي كان بطبيعة الحال مهتماً بخطط أنقرة، وعلى وجه الخصوص، بما يعرفه الإيطاليون عن وصول مجموعة من الوزراء العراقيين إلى هناك، أشار السفير الإيطالي أولاً: إلى أن هذا كان قرار البريطانيين، وثانياً: أن نوري باشا السعيد «شخصية تم شراؤها من قبل البريطانيين».
لقد تطرق السفير الإيطالي في حديثه إلى موضوع الوضع بخصوص سوريا. وبناء على ذلك أرسل تيرينتيف برقية سرية للغاية إلى ستالين، بشأن المحادثة، ذكر فيها ما قاله السفير الإيطالي أوتافيو دي بيبو. يقول الإيطالي: «لديّ معلومات دقيقة للغاية بأن زيارات عاصم غنديوز إلى سوريا وإلى حيفا وفوزي جاكماق إلى بيروت كان الهدف منها الاتفاق على أن تحتل تركيا حلب، وربما الجزيرة. لكن المفاوضات حول هذا الموضوع جرت في الوقت الذي كانت فيه سوريا في أيدي الفرنسيين. أما الآن فقد تم التخلص من فرنسا والقضية السورية ستحسمها شروط السلام». بعبارة أخرى، أصبحت سوريا، شأنها شأن دول بلاد الشام الأخرى، موضع مساومة جديدة.
كما تطرق السفير الإيطالي بيبو أيضاً إلى النوايا التي كانت لدى لندن حسب زعمه قائلاً: «البريطانيون، بعد أن فقدوا فرنسا، يعتزمون إنشاء دولة عربية من أجزاء من سوريا وفلسطين وشرق الأردن وربما العراق، وبمنح تركيا حلب والجزيرة. ويأمل الأتراك في حل هذه القضية الآن، أي في غياب فرنسا، لكنهم مخطئون بشدة إذا اعتقدوا أن كل شيء يعتمد على الاتفاق مع بريطانيا والعراق». يعتقد السفير بيبو أن أنقرة ستفشل. إذا كانت سوريا ستعتبر نفسها جزءاً من فرنسا فيليب بيتان (رئيس الحكومة العميلة المتعاونة لفرنسا في فيشي)، فعندئذ «سيتم حل المشكلة بشكل طبيعي معها». إذا رفض القائد العام للجيش الفرنسي، الجنرال ميتيلهاوزر، إطاعة فيليب بيتان، فإن إيطاليا نفسها ستعتبره متمرداً.
ثم تحدث السفير الإيطالي عن الإسكندرونة. وقال «إن الإسكندرونة التي حصل عليها الأتراك العام الماضي مهمة كميناء استراتيجي وتجاري. أراد البريطانيون استخدام الإسكندرونة كميناء استراتيجي، لكنهم فشلوا في ذلك. هذا يعني أنه ليس لها أهمية عسكرية، وأهميتها التجارية تعتمد على ما إذا سيكون للإسكندرونة منطقة قارّية خلفية على شكل مدينة حلب. لهذا السبب بالذات لدى الأتراك رغبة شديدة في الحصول على هذه المدينة. ما زلت أعتقد أنهم لن يتحركوا لكنهم سينتظرون مترقبين».
هكذا كانت القراءة الإيطالية لسياسة تركيا وبريطانيا تجاه بلاد الشام.
بالنسبة للسفير الروسي كان الطرح الإيطالي المهم هو أن العامل الحاسم في حل كل هذه المشاكل بالنسبة لأنقرة هو موقف الاتحاد السوفياتي. لقد أكد السفير بيبو: أن «الأتراك لن يفعلوا أي شيء يمكن أن يضعهم في صراع مع الاتحاد السوفياتي».
عند إرساله هذه المعلومات، أشار تيرينتيف إلى أن تركيا كانت تقوم بالتعبئة في وضح النهار وعلى الملأ: «لعدة أيام في أنقرة وإسطنبول، وأمام أعين الناس كانوا يقومون بإيقاف السيارات والدراجات النارية والهوائية والعربات والخيول والبغال والحمير - لقد أرسلوا كل هذا إلى نقاط التعبئة لتحويلها إلى الجيش. لقد شاهدت بنفسي عمليات الاستيلاء والمصادرة أكثر من مرة… يستدعدون ثلاث فئات عمرية من مواليد: 1910 و1909 و1908. غالباً ما تسير أعداد كبيرة من الأشخاص الذين تم حشدهم بالزي الرسمي الجديد في شوارع أنقرة». في الواقع، واجهت القيادة التركية خياراً؛ إما الحفاظ على وضعها كدولة غير محاربة، أو دعم إنجلترا، التي كانت لا تزال تسترشد بها، أو الدخول في الحرب إلى جانب ألمانيا. كانوا يحضّرون أنفسهم لأي احتمال. أود الإشارة إلى أن تركيا احتفظت خلال الحرب بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا بوحدات كبيرة من الجيوش المنتشرة على حدودها مع الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي تطلب من الأخير، وفقاً لنظام الردع، الاحتفاظ بجزء من قواته في جنوب القوقاز، التي كان بحاجة ماسة لها على الجبهة الغربية.
أما فيما يلي، سأسلط الضوء على المشهد الثاني. في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1940، أصدر وزير الخارجية السوفياتي فياتشيسلاف مولوتوف تعليمات للممثل المفوض الجديد للاتحاد السوفياتي في تركيا، سيرغي فينوغرادوف، عبر اطلاعه على بعض نتائج محادثاته في برلين مع هتلر في 12 و13 نوفمبر. مولوتوف، على وجه الخصوص، كتب: «كما اتضح من المحادثات، يريد الألمان وضع أيديهم على تركيا تحت ستار ضمانات أمنها على غرار رومانيا، وإغراءنا بوعود فارغة بمراجعة اتفاقية مونترو لصالحنا، ويعرضون علينا المساعدة في هذا الشأن. لم نوافق على ذلك، لأننا نعتقد، أولاً: أن تركيا يجب أن تظل مستقلة، وثانياً: يمكن تحسين النظام في المضيق نتيجة مفاوضاتنا مع تركيا، ولكن ليس من وراء ظهرها». سمح مولوتوف للمفوض، في حال إذا سأله أي شخص من الدوائر الحكومية التركية عن هذه المسألة، «بالتلميح» فقط حول موقف موسكو هذا.
وبهذا الشكل، لم تكتفِ موسكو بعدم تشجيع خطط برلين التوسعية فيما يتعلق بتركيا، بل ودافعت عن استقلالها أيضاً خلال هذه المرحلة الصعبة، كونها معارضة للاستعمار. واعتبرت أنه من المستحيل أساساً التصرف من وراء ظهر تركيا، رغم أن مصلحتها تكمن في تحسين الوضع المتعلق بمضيق البوسفور والدردنيل عشية الحرب العالمية.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»