لطالما ألحَّ علينا سؤال لا أدري إنْ كان منطقياً أم أنَّه ضربٌ من ضروب الخيال في عالم اليوم، هل نستطيع كأفراد أن نعالجَ خلافاتنا بعيداً عن أروقة المحاكم بما لها وما عليها، التي هي في الحالة المثالية، الميدان الذي تتحقَّق فيه العدالة الناجزة، وفي أحيان أخرى، قد تتأثر أحكامها باعتبارات كثيرة، تتفاوت بين غياب النص الواضح أو تفسيره، أو بما يثقل كاهلها بكثرة القضايا، وبالتالي بطء الفصل فيها؟
ومن هنا، نجد أنَّ الكثير من الدول - عربية كانت أو غربية - وفي إطار إصلاحاتها العدلية المخصصة للجانب الأسري، قد استحدثت العديد والعديد من التدابير لمعاونة الذراع القضائية بباقة واسعة من الخدمات الأسرية، التي نجد في صلبها ما يسمى «الوساطة الأسرية». ولكن السؤال الآخر الذي يطرح نفسه، هو إلى أي مدى يستطيع مثل هذا التدبير المتحضر والوسيلة البديلة، أن يقوم بدوره المأمول في «إصلاح ذات البيْن»، المتسق مع جوهر الشريعة الإسلامية السمحة، والمحسوم في فضائها؟ فالزواج هو إمساك بمعروف، والطلاق تسريح بإحسان... هكذا وببساطة شديدة قد يصعب في الغالب تنفيذها بحكمة ودراية، وبالتزام صحيح بما ورد بالنص القرآني الذي لا جدال فيه.
مناسبة طرح هذا التساؤل، هي صدور قرار نوعي في مملكة البحرين بشأن تنظيم الوساطة في المسائل الشرعية وضمن سياق أوسع، تُشرف عليه أجهزة هذا القطاع المحوري، من أجل تبني الحلول البديلة لحل النزاعات التجارية والمدنية والجنائية، وصولاً اليوم للوساطة الأسرية/ الشرعية التي تأتي بدورها تحت مظلة أشمل، وهو جهاز التوفيق الأسري الذي يباشر قضايا الطلاق قبل تثبيتها بحكم قضائي في حال استنفاد وسائل الصلح. وليس فقط من قبل موظفي الجهاز، بل سينظر فيها، بحسب قرار وزير العدل، وسطاء معتمدون من المؤسسات الخاصة والمراكز التي تختص بشؤون الأسرة والإرشاد الزوجي، وهذا توجه عام في مملكة البحرين بحسب رؤيتها الاقتصادية 2030، لتكون الدولة مراقباً للخدمات ومنظماً لها، في حين يتولى القطاع الخاص والأهلي دوره بمباشرة اختصاصاته وتقديم خبراته لتجويد الخدمات وتطويرها للمواطنين والمقيمين على حد سواء.
وبحسب التجربة الوطنية، وما نتابعه في العديد من الدول الخليجية والعربية في هذا الشأن تحديداً، فإن الجميع يتفق على عدد من الاعتبارات التي يجب أن تُراعى في هذه المسألة، إن أردنا تمكيناً حقيقياً للأسرة في إدارة خلافاتها وحلها بتقريب وجهات النظر والاستناد إلى قاعدة أساسية مقدسة وهي في «الصلح خير» كأول علاج يتبع عند تشخيص المشاكل الأسرية والخلافات الزوجية.
ولكن في المقابل، تواجه هذه الجهات المختصة عدداً من التحديات التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار إن أردنا إحياءً حقيقياً لمسائل الوساطة، التي هي في جوهرها تسعى لممارسة ثقافة الحوار والتسامح والتقارب، وهي كالسياسة تبحث عن فن الممكن لاستقرار المؤسسة الأسرية استقراراً حقيقياً، التي يجب أن تكون على أعلى هرم سياساتنا التنموية، لأنها المدرسة الأولى التي سيتدرب أفرادها على قبول الآخر وإبقاء الود والتراحم، مهما اشتد الاختلاف.
ومن بين أهم التحديات المطروحة على طاولة المختصين والمهتمين لتنشيط هذا الجانب في إطار إدارة خلافاتنا الأسرية تحقيقاً لأهدافها:
- مدى تمكن هذه الأنظمة من تأمين عناصر أساسية للتأسيس لعمليات «مرنة وسريعة ومحاطة بالسرية» التي تتسم بها الوساطة، مع قدرة هذه النظم على خفض «فاتورة الطلاق» سواء كانت معنوية أو مادية بالحد من آثارها والتخفيف عن كاهل الجسم القضائي الذي يعاني أحياناً من تراكم مثل هذه القضايا، وطول مدة الفصل فيها.
- مصادر تمويل مثل هذه العمليات خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار حداثة التجربة في بعض الدول، والبحرين من بينها، قد تجعل قيمة خدماتها سبباً لتردد الأسر في التقدم لها، وسيكون من الخطورة بمكان، أن تمتنع الأطراف عن الاستفادة من الوساطة وتُدفع دفعاً لمنصة القضاء.
- طبيعة تعامل قطاع المحاماة والقضاء مع هذه المسألة، وهذا شأن بالتأكيد يتفاوت بين تجربة وأخرى، اعتماداً على مدى انخراط تلك الكوادر في الوساطة، فبحسب التجربة البحرينية يَسمح القرار لمكاتب المحاماة والقضاة المتقاعدين بمزاولة دور الوسيط، ولكن في المقابل يتطلب الأمر اهتماماً خاصاً من القضاة بتشجيع الأطراف على الأخذ بالوساطة الأسرية/ الشرعية في أي مرحلة من مراحل الدعوى، إن أردنا ميداناً قضائياً فاعلاً وفعالاً يطمح إلى تسهيل سبل الوصول للخدمات العدلية وتيسيرها أمام المتقاضين.
- دور المؤسسة التربوية/ التعليمية والمعاهد القضائية ومراكز الاستشارات الأسرية في تنمية قدرات الوسطاء على المدى البعيد، إذ يفترض في الوسيط أن يكون ملماً ومتمكناً من العديد من المهارات التي تجمع بين، الفهم الشرعي/ الفقهي المستنير، والخبرة الاجتماعية/ الأسرية، والممارسة العملية التي يجب أن تتوفر في الوسيط الأسري، بالإضافة إلى إلمام تلك الكوادر بالنظام القانوني لتشجيع المختلفين على التوافق، إما صلحاً باستئناف الحياة الزوجية، أو تسريحاً بأقصى درجات المعروف، ناهيك عن قدرة النظام بشكل عام على المتابعة الأولية للتصالح الزوجي الذي يجب ألا تقف حدوده عند لقاء يتيم أو جلسات مقتضبة لحل خلافات قد طال بها الأمد أو قصر.
هذا بإيجاز، ما يتطلب النظر فيه، قدر المستطاع، لدى تفعيل الوساطة الأسرية بكل ما تحمله من رؤية طموحة تضع قضية «الاستقرار الأسري» مدخلاً رئيسياً للوصول لـ«السلم الاجتماعي»، وبغايات وقيم إنسانية تحملنا كأفراد مسؤولية إصلاح النفس وتطوير علاقاتنا بالمودة والرحمة، وأن تكون خلافاتنا شأناً خاصاً بنا، الأصل فيه أن نبدأ بالصلح وتقديم المصلحة الفضلى للأبناء، التي يجب أن نضعها فوق أي اعتبار ترسيخاً لثقافة الحوار والتسامح والوئام، ثقافة نحن بأمس الحاجة لها اليوم في عالم ينوء بمظاهر جديدة للعنف والتعنيف والامتهان، من دون أن نغفل عن حقيقة أساسية، بأن قدرتنا على حل خلافاتنا بود ومحبة وتفهم ستبعدنا عما هو متاح أو غير متاح قانوناً، ما دمنا لا نحلل حراماً... ولا نحرم حلالاً.
* الأمين العام للمجلس الأعلى للمرأة
بمملكة البحرين
TT
الوساطة الأسرية... هل هي الصيغة الأمثل لإدارة الخلافات؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة