كريستوفر كالدويل
TT

انهيار أحد أركان النظام الأوروبي

إن الهزيمة التي تعرض لها الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني في الانتخابات الأخيرة التي شهدتها البلاد هي إشارة إلى أنه، إلى جانب تولي المستشارة أنجيلا ميركل السلطة لمدة 16 عاماً، ثمة شيء أكبر يقترب من نهايته.
وبعيداً عن حلف شمال الأطلسي، فإن الاتحاد الديمقراطي المسيحي هو المؤسسة السياسية الأكثر تبجيلاً في أوروبا القارية لما بعد الحرب. فقد قاد ألمانيا، عادة عبر الائتلاف، طوال 20 عاماً من التاريخ السياسي لما بعد النازية. كان الحزب الذي يركز على النمو الاقتصادي، والتقاليد المسيحية، ومناهضة الشيوعية، والحفاظ على حلف الأطلسي، بمثابة ضمان لحلفاء ألمانيا بأن أكبر دولة في أوروبا، وأغناها، ستكون مستقرة ويمكن الاعتماد عليها. ومع نسبة 24 في المائة الضئيلة من الأصوات التي نجح في الفوز بها أرمين لاشيت، خليفة السيدة ميركل، لم يعد بإمكان الاتحاد الديمقراطي المسيحي لعب هذا الدور. لقد انهار أحد أركان النظام الأوروبي.
تراجع الاتحاد الديمقراطي المسيحي منذ بداية القرن على الأقل. وفي الوقت الذي تمكنت فيه السيدة ميركل من تمويه ذلك، فإنها لم تُظهر أي قدر يُذكر من الاستعداد لعكس هذا الاتجاه. وفي الانتخابات الخمسة التي جرت منذ عام 2005، عندما تولت السلطة، تراجعت حصة حزبها في التصويت فيما عدا مرة واحدة.
ربما لا تحتاج كل دولة إلى «حزب شعبي» من يمين الوسط. من بين الرابحين الكبار في هذه الانتخابات، كان حزب الخضر القلق للغاية بشأن تغير المناخ، والديمقراطيون الأحرار قلقون بشأن سلاسل التوريد، وهما شاغلان لم يكونا موجودين في وقت تأسيس الاتحاد. ولكن كان الخطر قائماً دوماً على الحزب بأكثر من مجرد توفير الخدمات الحديثة المناسبة لتفضيلات الناخبين. في ضوء ماضي ألمانيا النازي، كان من حق الاتحاد الديمقراطي المسيحي لعب دور معتدل، أي تناول النعرات الوطنية للألمان العاديين بطريقة تثنيهم عن الانجرار إلى الأطراف السياسية.
وكان هذا الدور دستورياً تقريباً. قبل نصف قرن، برر فرانز جوزيف شتراوس، زعيم الحزب البافاري الشقيق للاتحاد الاجتماعي المسيحي، نزعته المحافظة، وقال إنها جاءت مع ضمان بأنه «لا يوجد حزب سياسي شرعي» يتمتع بحق حزبه. شعر الكثيرون بأنهم يثقون في السيد شتراوس لمراقبة الحدود الآيديولوجية في أقصى اليمين للبلاد.
ولكن في السياسة الانتخابية، أو نظرية اللعبة، أو أياً كان ما تريد أن تسميه، فهناك مغالطة في مثل هذا الترتيب. ولم تكن السيدة ميركل بطيئة في اكتشافه: إذا لم تكن هناك فعلاً وجهات نظر مشروعة إلى يمين حزب الاتحاد الديمقراطي، فالاستراتيجية المثلى للحزب هي أن يتحرك إلى أقصى اليسار، وهو ما يمكن أن يفعله دون خوف من أن يتغلب عليه حزب يميني بديل.
وهذا ما فعلته السيدة ميركل، سواء كان بدافع المثالية أو الحسابات السياسية. ففي أعقاب انهيار فوكوشيما في عام 2011، أعلنت عن الخروج من الطاقة النووية، الهدف الذي سعى حزب الخضر لتحقيقه منذ فترة طويلة. وفي عام 2015، انضمت إلى الاشتراكيين الديمقراطيين في تمرير الحد الأدنى للأجور. وفي عام 2017، حصلت على تصويت لإضفاء الشرعية على زواج المثليين (من دون أن تصوت بنفسها لهذا الأمر). والأمر الأكثر أهمية هو أنها أعلنت في عام 2015 أن ألمانيا سوف ترحب بمئات الآلاف من المهاجرين الفارين من الحرب في سوريا، ما أسفر عن اندلاع أزمة سياسية في مختلف أنحاء القارة، والتي دفعت بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، من بين عواقب أخرى.
وكان التأثير على السياسة الألمانية مخيفاً. أما حزب «البديل لأجل ألمانيا»، الذي كان حتى تلك اللحظة جماعة غريبة مهووسة بالسياسة النقدية للاتحاد الأوروبي، فقد غير تركيزه إلى الهجرة في يوليو (تموز) 2015. وفي مارس (آذار) التالي - أي قبل ثمانية أشهر من انتخاب دونالد ترمب - حصد الحزب 13 و15 و24 بالمائة من الأصوات في انتخابات الولايات. في عام 2017، لم يكتفِ «البديل لأجل ألمانيا»، الذي أصبح الآن راسخاً على يمين الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بإرسال نحو 100 عضو إلى البرلمان، بل أصبح أيضاً الحزب المعارض الرئيسي في البلاد. ويبدو أن السيدة ميركل كانت تسمح بلا تردد لأصوات الناخبين «باستنزاف» حزبها وتحويله إلى النمط الشعبوي على الطريقة الأميركية.
ولا شك أن السيدة ميركل ليست أول سياسية محافظة تتصيد الناخبين من معارضيها التقدميين. ولكن هناك بعض المشاكل التي يمكن التنبؤ بها فيما يتصل بهذه الاستراتيجية. فالقائد يستفيد أكثر من جماهير الحزب، لأن مشهد القضايا التقدمية هو مجال أجنبي غريب بالنسبة لهم. في هزيمة الشهر الماضي، صارت الأشياء التي عادة كان يتحدث عنها الديمقراطيون المسيحيون ويحشدون المعنويات حولها - (كوفيد - 19)، والمهاجرون، واليورو - فجأة خارج الحدود. فقد التزم الجماهير الصمت المطبق. في انتخابات الأسبوع الماضي، خسر الاتحاد الديمقراطي المسيحي نصف ناخبيه في الانتخابات السابقة. وأقل من 3 في المائة انشقوا منضمين إلى حزب «البديل لأجل ألمانيا». وذهبت حصة الأسد إلى الاشتراكيين الديمقراطيين، والديمقراطيين الأحرار، وحزب الخضر.
والآن، أصبحت السياسة الألمانية أقل قابلية للتنبؤ بمجرياتها. فقد تضاعف وفد الخضر في البرلمان تقريباً. فكثير من القادمين الجدد هم أشخاص لم يسبق لهم أن شغلوا مناصب منتخبة من قبل، وهو ما يمنحهم شيئاً مشتركاً مع الأحزاب الأوروبية الناشئة، مثل حركة النجوم الخمسة في إيطاليا وحركة المقاومة الوطنية في فرنسا، ومع الديمقراطيين في الولايات المتحدة عند وصول جناحهم التقدمي بعد عام 2018. الديمقراطيون الاشتراكيون من الشباب أيضاً. وقد حصلوا هذا العام على مقعد السيدة ميركل، الذي سيذهب إلى أنا كاساوتزكي (27 عاماً)، التي وصفت نفسها بأنها مناصرة للمرأة ومناصرة للبيئة، والتي لم تولد عندما تم انتخاب السيدة ميركل لأول مرة.
من المؤكد أن بعض المحافظين الألمان التقليديين يأسفون لإرث السيدة ميركل. لكن كان هناك معنى واحد والذي كانت تتواصل فيه مع أسلافها - مقاومتها للمثالية. في الآونة الأخيرة، كان أداء المجتمع والاقتصاد (ونظام الرعاية الصحية) في ألمانيا أكثر كفاءة من أداء جيرانها. وكان الإنجاز العظيم الذي حققته السيدة ميركل هو إدراكها بأن الكفاءة في الاقتصاد العالمي غالباً ما تكون مرادفاً للضعف. إن ألمانيا، مثلها في ذلك كمثل أفضل آلياتها، تتمتع بأداء وظيفي عالٍ ودقيق للغاية في الوقت نفسه.
كثير من مراقبي ألمانيا ينسون ذلك. السيدة ميركل دفعت «اقتصاد السوق الاجتماعي» السخي نسبياً في بلادها للقيام بالمزيد - لتوفير حد أدنى معقول للأجور، ولقبول أعباء تعليم واستيعاب الملايين من المهاجرين اليائسين من الحرب السورية، والقيام بهذه الأمور مع الوعد بالتخلي عن الطاقة الرخيصة نسبياً التي توفرها الطاقة النووية. وأيدت إنشاء سندات للاتحاد الأوروبي - وهي من المحرمات الدائمة في حزبها - لتمويل صفقة طوارئ لمكافحة فيروس كورونا.

- خدمة «نيويورك تايمز»