عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

«كعب أخيل» في معركة «كورونا»

الكورونا باقية حتى إشعار آخر...
هذا ما عناه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عندما دعا الناس لأن يتكيفوا على التعايش مع الكورونا، معلناً خطة وطنية للتعامل مع الفيروس خلال الخريف والشتاء، كونهما أول موسمين يواجه فيهما العالم متحور دلتا الجديد سريع الانتشار.
وأطلق جونسون، في مؤتمر صحافي، أول من أمس، برنامج الجرعات المعززة من اللقاح لمن هم فوق سن الخمسين، وكذلك لكل العاملين في قطاع الرعاية الصحية والاجتماعية ودور العجزة، وللأشخاص بين سن 16 و49 ممن يعانون من بعض المشكلات الصحية التي تؤثر على نظامهم المناعي. فالعلماء استقوا من الدراسات التي أجريت على نتائج حملات التطعيم، وعلى فاعلية اللقاحات، أن تأثيرها يقل بعد 6 أشهر، لذلك ستبدأ بريطانيا والدول المقتدرة في الغرب برنامج التطعيم بالجرعات المعززة. وسيكون التركيز أولاً على كبار السن، لأن الدراسات المنشورة حديثاً أشارت إلى أن فاعلية اللقاحات تتراجع أسرع عند كبار السن، وبشكل خاص بين من هم أعلى من سن 75.
أيضاً في إطار الإجراءات الجديدة، ستبدأ بريطانيا اعتباراً من الأسبوع المقبل حملات التطعيم للأطفال من سن 12 إلى 15 أسوة بما فعلته أميركا ودول أخرى. هذه الخطوة المثيرة للجدل تقررت بعدما رصد الأطباء والمختصون ارتفاعاً في عدد الإصابات بين الأطفال بمتحور دلتا، إذ بلغ عدد من أدخلوا المستشفيات للعلاج من «كوفيد» في الولايات المتحدة مثلاً 30 ألف طفل خلال شهر أغسطس (آب) الماضي.
لكن على الرغم من كل هذه الإجراءات الاحترازية، يظل «كعب أخيل» بالنسبة للحكومة البريطانية وكثير من الدول، هو الملايين الذين يرفضون حتى الآن التطعيم. ففي بريطانيا، ما زال هناك 5 ملايين شخص لم يأخذوا اللقاح بعد، إضافة إلى 37 في المائة من الشعب الأميركي، وعشرات الملايين الآخرين في أوروبا. ويتخوف العلماء من أن بقاء الملايين من دون تطعيم سيكون أشبه بالروليت الروسي مع الكورونا، بمعنى أن فرص تحور فيروس أشد خطورة تبقى واردة ومفتوحة على كل الاحتمالات الخطرة.
فلماذا يقاوم عشرات الملايين في الغرب التطعيم؟
الأسباب متباينة؛ فقسم كبير ممن يرفضون التطعيم تأثروا بالمعلومات المضللة المتداولة على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي. وهناك البعض ممن لديهم اعتقادات دينية يقولون إنها تمنعهم من التطعيم، وآخرون يبررون خوفهم من التطعيم بأن اللقاحات طُورت بسرعة، ولم تخضع للاختبارات الكافية. كذلك فإن بعض الناس الذين أصيبوا بـ«كوفيد» يعتقدون أنه باتت لديهم مناعة طبيعية ضد الفيروس، وبالتالي لا يحتاجون للتطعيم. هذا الرأي لا يتسق بالضرورة مع رأي العلماء الذين يرون أن المناعة الطبيعية قد لا تكون كافية للحماية من الكورونا ومتحوراتها، لذلك ينصحون بالتطعيم لزيادة الحماية، ولا سيما أن شركات الدواء تعمل بشكل مستمر لتطوير لقاحاتها لمواجهة المتحورات.
وتظهر كل الدراسات أن اللقاحات تلعب دور «الجدار الواقي» أمام العدوى الخطيرة أو الوفاة. ففي دراسة نشرتها هيئة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية في أميركا هذا الأسبوع، تبين أن الأشخاص الذين لم يأخذوا اللقاح كانوا أكثر عرضة بنحو 5 مرات للإصابة بالعدوى من الأشخاص الذين تم تطعيمهم، و10 مرات أكثر عرضة للدخول إلى المستشفى نتيجة الإصابة، و11 مرة أكثر عرضة للوفاة من «كوفيد 19». أما العلماء البريطانيون فخلصوا إلى أن احتمالات الوفاة نتيجة الإصابة بـ«كوفيد» تكون أعلى 9 مرات إذا كان الشخص غير مطعم.
لكن بينما تسابق الدول الغربية الزمن قبل حلول الشتاء لإعطاء سكانها من كبار السن الجرعة المعززة، وتطعم الأطفال، يظل هناك «كعب أخيل» آخر في المعركة ضد الكورونا وهو؛ كيف يمكن أن تحمي نفسك وتبني جداراً منيعاً ضد الفيروس، فيما الغالبية من دول العالم النامي، في القرية الصغيرة العالمية التي نعيش فيها، ما زالوا أبعد ما يكون عن الحماية ضد الفيروس؟
منظمة الصحة العالمية وعدد من العلماء جادلوا بأنه كان من الأجدى إرسال جرعات التطعيم للدول النامية التي تحتاجها بشدة بدلاً من استخدامها في جرعات ثالثة معززة في الدول الغنية. ويشير هؤلاء إلى أن جائحة كورونا ستبقى خطراً يهدد العالم، بما فيه الدول الغنية، في ظل معدلات التطعيم المتدنية في الدول الفقيرة.
الدول الغربية استحوذت على معظم اللقاحات المنتجة، في حين أن 58 في المائة من سكان العالم لم يحصلوا على جرعة واحدة من اللقاح. واستناداً إلى تقرير لمؤسسة «إيرفينيتي» المختصة بجمع ونشر المعلومات العلمية، ومقرها لندن، فإن الإنتاج العالمي من اللقاحات بلغ 6 مليارات جرعة بنهاية أغسطس الماضي، وسيتجاوز 11 مليار جرعة بنهاية العام الحالي، وهو ما يكفي نظرياً لتطعيم سكان العالم، لو وزعت الجرعات بشكل عادل ووصلت إلى الدول الفقيرة بأسعار معقولة، أو في شكل مساعدات. لكن مع التنافس الشديد على الكميات المنتجة فإنها ذهبت للغرب وللدول المقتدرة، في حين لم تحصل الدول النامية إلا على كميات ضئيلة للغاية. حتى المساعدات الموعودة لم تتحقق بالشكل المرجو. فالمليار جرعة التي وعدت الدول الصناعية السبع والاتحاد الأوروبي بوهبها للدول الفقيرة، لم يُسلّم منها إلا أقل من 15 في المائة.
وفي محاولة لدرء هذه الانتقادات، قال رئيس الوزراء البريطاني، في مؤتمره الصحافي، أول من أمس، للإعلان عن خطط حكومته لمواجهة الارتفاع المتوقع في الإصابات خلال أشهر الشتاء، إن بريطانيا ستقدم 100 مليون جرعة من اللقاحات للدول النامية بحلول يونيو (حزيران) المقبل. هذه الخطوة، مع الخطوات التي أعلنتها دول أخرى، لا ترقى لمستوى المعالجة المطلوبة في هذه الظروف الاستثنائية.
4 مليارات دولار هي كل ما تحتاجه مبادرة كوفاكس التي تقودها منظمة الصحة العالمية لإيصال اللقاح إلى الدول الفقيرة وتطعيم ما لا يقل عن 40 في المائة من السكان في 92 بلداً، لكن الفجوة ما تزال كبيرة بين التعهدات والإنجازات. وبقيت المنظمة الدولية تطلق المناشدة تلو الأخرى من أجل العدالة في توزيع اللقاحات، وتأجيل الجرعات المعززة وإرسال الجرعات الزائدة المتكدسة لدى الدول الغنية إلى الدول التي تحتاجها أكثر، لكنها لم تجد التجاوب المطلوب.
أكثر من 4.5 مليون إنسان ماتوا بسبب الكورونا، في حين أن تقديرات نشرتها مجلة «الإيكونوميست» البريطانية قدّرت الرقم بنحو 15 مليوناً إذا وضعنا في الاعتبار أن كثيراً من وفيات «كوفيد» لا تسجل، لأنها لا تحدث في المستشفيات، أو لم يبلغ عنها أصلاً. أضف إلى ذلك أن معظم الوفيات الناجمة عن «كوفيد 19» في الدول النامية غير مسجلة.
هذه الأرقام مرشحة للزيادة بالتأكيد، والعلماء يحذرون من أن الدول الغربية والمقتدرة لن تنجح في السيطرة على الجائحة حتى لو طعمت كل مواطنيها، ثم أعطتهم الجرعات المعززة، ما دام الفيروس يجد بيئة مواتية للانتشار والتحور في بقاع الأرض التي لم يصلها اللقاح. فالمعركة ضد «كوفيد» ستكون خاسرة إذا بقي العالم منقسماً بين دول تستحوذ على جلّ اللقاحات، ودول فقيرة تنتظر وعود الهبات المتأخرة، بينما الفيروس لا يعرف الانتظار.