علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الشيخ كشك و«الكباريه السياسي»

عام 1972، هو العام الذي بدأ فيه - حسب رواية جيل كيل – توزيع تسجيلات خطب كشك يوم الجمعة، وهو العام الذي صدف أن كانت فيه النشأة الفعلية لمسرح «الكباريه السياسي» في مصر. ولقد شهد هذا اللون من المسرح الذي يقدم في مسرح القطاع الخاص ازدهاراً ابتداءً من أول السبعينات الميلادية. وفي المقابل فإنه ابتداءً من هذا التاريخ، بدأ مسرح القطاع العام أو مسرح الدولة يعاني من ضعف إقبال الجمهور عليه.
هذا اللون من المسرح يسمى في فرنسا «كباريه الشانسونييه». وفي فرنسا كانت نشأته منذ ما يقرب من قرن ونصف قرن. في أصل نشأته في باريس كان عبارة عن حانة تتضمن مسرحاً صغيراً، يرتادها المثقفون والفنانون الناقدون لتسلط الحكومات ورجال السياسة وعموم المنافقين. تميز بكونه وسيلة للتعبير والاحتجاج بأغنية ذات سخرية لاذعة ومسلية تجاه الفساد السياسي والنفاق الاجتماعي والنفاق الديني. ثم امتد إلى ألمانيا بالمعنى نفسه واللفظ نفسه «كباريه». ثم انتشر في باقي بلدان أوروبا. وعرفته الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية.
هذا اللون من المسرح – كما المسرح بكافة ألوانه – انتقل إلى مصر من فرنسا. انتقل هذا اللون إليها في الستينات الميلادية.
ورفعاً للالتباس، أوضح أن مسرح «الكباريه السياسي» لا يقتصر على النقد السياسي، وإنما يشمل كافة الشؤون التي يهتم الفنانون والمثقفون بها، سواء التي تتعلق بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية أو الفنية. لهذا يسميه البعض «مسرح الكباريه». مشكلة مسرح «الكباريه السياسي»، بما أنه مسرح تجاري، فإنه معرض للوقوع في النقد المبتذل والرخيص، لأنه يعتمد في تمويله المالي على إقبال الجمهور عليه. وهذه مشكلة لا يواجهها مسرح القطاع العام لأنه ممول من الدولة، فمسرح الدولة مهما قلت مكاسبه المالية بسبب ضعف إقبال الجمهور عليه، فإنه يحافظ على كونه مسرح ثقافة، وعلى ما تقتضيه الثقافة من احتشام ورصانة ووقار.
المشاهد الساخرة والنقد الهزلي الذي كان يقدمه الشيخ كشك في خطبه يوم الجمعة بتجاوز الناحية الشكلية التي يجب أن تتوفر في مسرح «الكباريه السياسي» كانت بحق «كباريهاً سياسياً». وهذا ما ميزه عن سواه من شيوخ الكاسيت الإسلامي.
كما أنه بـ«الكباريه السياسي» الذي كان يقدمه في خطبه، هو سبب معرفة عموم الناس بالكاسيت الإسلامي، وهو سبب صعوده وانتشاره بينهم في أول أمره. وهذا يعود إلى أن الذين كانوا يستمعون إلى أشرطته يتعدى نطاق الملتزمين دينياً. ولقد أشار جيل كيبل إلى شيء من هذا في وصفه الدقيق لصدى أشرطة كشك عند العامة في القاهرة، الذي استشهدت به في مقال «الكاسيت الإسلامي بين مصر والكويت».
أما على مستوى المتعلمين ممن هم من خارج مصر، فأضيف هذه المعلومة:
أن زوار مصر من البلدان العربية المهتمين، إما بالسياسة وإما بالإعلام وإما بالثقافة وإما بالفن، أو هم مهتمون بكل هذه الحقول، كان بعضهم يحرصون على حضور صلاة الجمعة في مسجد الشيخ كشك، للاستماع إلى خطبته بنية الترفيه والتسلية والتفكه، وليس بقصد التعلم والتثقف منه. فهم يختلفون مع كل ما يقول في السياسة والسياسيين، وفي الثقافة والمثقفين، وفي الفن والفنانات والفنانين.
وخلال أيام الأسبوع يحضرون مسرحية، ويشاهدون فيلماً، أو قد يذهبون إلى نادٍ ليلي في فندق خمسة أو أربعة نجوم، ويذهبون إلى ملهى في شارع الهرم لسماع الغناء ومشاهدة الرقص الشرقي.
الفرق بين خطب «الكباريه السياسي» التي يقدمها الشيخ كشك كل يوم جمعة، وبين «الكباريه السياسي» الذي تقدمه بعض فرق القطاع الخاص، أن «الكباريه السياسي» في خطبه قام من الأساس على نقد مبتذل، واستمر بهذه الصورة في كل خطبه إلى أن زج به في السجن باعتقالات شهر سبتمبر (أيلول) عام 1981.
في مقطع على قناة «يوتيوب» تحت عنوان «الكاتب الصحافي وائل لطفي يكشف سر الشيخ وسر شهرته وسر خدعته الشهيرة» مدته ثلاث دقائق وسبع ثوان، منقول عن قناة «الحدث نيوز»، قال هذا الكاتب الصحافي، وهو يتحدث عما جاء في كتابه «دعاة عصر السادات» عن الشيخ كشك، إنه «ما بئولش آراء فقهية. يعني ما بيئولكش مثلاً إن الفن حرام زي بعض الدعاة ما بيعملوا... هو يبتدي يخلط السخرية بالحقد الطبقي».
ملحوظته هي ملحوظة صحيحة، فالشيخ كشك لم يقل في خطبه من خطبة أن الغناء والتمثيل محرمان. لكن تعليله تعليل خاطئ. فهو لم يقل ذلك لأنه يضمر الخداع، وإنما لم يقله لسبب بسيط، وهو أنه لو قاله لأوقع نفسه في ورطة محرجة له.
ففي خطبه التي يهاجم الفنانات والفنانين فيها، إما بأسلوب هازل، وإما بأسلوب غليظ، ينم هجومه عن أنه يستمع لأغاني المطربين والمطربات، وعن أنه يتابع بعض الأفلام وبعض المسرحيات وبعض التمثيليات التلفزيونية، ويتابع فوازير نيللي في شهر رمضان، يتابع كل هذا بأذنيه، لأنه كفيف البصر.
فلو قال بحرمة الغناء والتمثيل لما وسعه أن يفعل هذا، إذ سيقال له: كيف تقترف ما تقول بحرمته؟!
وهو يفعل هذا لسببين:
السبب الأول: أنه يستمتع بالفن الطربي، ويتذوق اللحن والصوت، خصوصاً ألحان وأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصوتهما، فهما المفضلان عنده. وقد كشف عن هذا الملحن عمار الشريعي والشاعر الغنائي أحمد شفيق. ويستمتع بالفن التمثيلي في السينما وفي المسرح وفي التلفزيون. ويستمتع باستعراضات الممثلة نيللي التي تقدمها في شهر رمضان.
السبب الثاني، أن الغناء والتمثيل مادة من مواد «كباريهه السياسي». وهذه المادة تتميز بأنها مادة مغرية وجاذبة ومسلية لعموم الناس، يصول ويجول فيها، هازئاً، ومعنفاً، وشاتماً، وينفذ من خلال استهزاءاته وتعنيفاته وشتائمه إلى نقد سياسي ونقد اجتماعي ونقد اقتصادي ونقد ثقافي، لكنه كان دائماً نقداً مبتذلاً وسطحياً. إن علاقة الشيخ كشك بالفن والفنانات هي علاقة متناقضة وعلاقة غير سوية. فهو يهوى الفن ويكن إعجاباً دفيناً لبعض المغنيات والمغنين، ولبعض الممثلين الكوميديين، وافتتاناً ببعض الممثلات، وفي العلن يعادي أهل الفن. فهو يستلذ في الإزراء بهم، والحط من شأنهم، بنقد هازل ونقد فج. لأنهم كانوا هم «النجوم» في المجتمع المصري وفي المجتمعات العربية لعقود طويلة، لم يكن رجال الدين في هذه العقود الطويلة هم «النجوم»!
قبل ظهور «نجومية» الشيخ كشك من أول السبعينات الميلادية في مصر وفي بعض بلدان المشرق العربي، لم يكن في مصر من رجال الدين من تحول إلى «نجم»، رغم ظهور الكثير منهم في التلفزيون المصري في الستينات والسبعينات الميلادية في برنامج «نور على نور»، الذي يعده ويقدمه المذيع أحمد فراج.
علاقة الشيخ كشك المتناقضة وغير السوية بالفن والفنانات والفنانين مبطنة بروح التنافس والصراع من أجل أن يكون «نجماً» مثلهم. وكانت تحدوه رغبة مستعرة في طمس نجوميتهم. هو يرى نفسه نداً لعادل إمام الذي بزغت نجوميته الكاسحة مع «مدرسة المشاغبين» في أول عرض لها، بل يرى أنه أحق منه بأن يكون هو «النجم الأول» في مصر والعالم العربي. وما يعبر عن شعوره هذا تلك الجملة التي أطلقها في أحد خطبه، والتي تتوازى فيها البراعة في الاستخدام البلاغي مع البراعة في السخرية اللئيمة من عادل إمام، وهي قوله: «كنا نبحث عن إمام عادل طِلعْ لنا عادل إمام!». ولقد نجح الشيخ في مسعاه في أن يكون «نجماً»، فكان أول رجل دين يكسر احتكار «النجومية» التي كانت قبل نيله لها حكراً على أهل الفن وعلى لاعبي كرة القدم.
نقل حسام حربي في جريدة «الوطن» المصرية كلاماً قاله وليد البرش المنشق عن «الإخوان المسلمين»، منوهاً إلى أن ما نقله، كتبه وليد البرش في تدوينات يسردها بعنوان «معالم الطريق». ووضع لكلام وليد البرش الذي نقله عنواناً في تلك الجريدة، هو «كيف استخدم الشيخ كشك ثلاثي أضواء المسرح للوصول لمنصب متحدث الإخوان؟». وحينما نقرأ ما قاله وليد البرش عن الشيخ كشك لا نجد فيه شيئاً مما قاله العنوان.
مما نقله حسام حربي عن وليد البرش قول الأخير عن مسرحية «مزيكا في الحي الشرقي»، التي كان أبطالها سمير غانم وجورج سيدهم وصفاء أبو سعود، المعروضة عام 1971، «في أحد المشاهد انتقد سمير غانم بطريقة كوميدية كلمات الأغاني للمطربين (فهد بلان، فايزة أحمد، محمد طه وغيرهم). كان هذا الأسلوب جديداً على الجمهور المصري، ولاقى استحساناً كبيراً، ومن هذا التقط الشيخ الفكرة الجديدة، وهي السخرية بطريقة كوميدية من الفن».
نعم، هي في وقتها فكرة جديدة على جمهور المسرح المصري لكنها ليست فكرة جديدة في حياتهم. فالعبث بكلمات القصائد وكلمات الأغاني وأسماء الأشخاص لون من السخرية يتبعه بعض الساخرين والعابثين المصريين، وهو مروي عنهم منذ عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وهذا اللون من السخرية يقول به ظرفاء الأزهريين أصحاب الملح والنكات.
يقول وائل لطفي في مقطع الفيديو على قناة «يوتيوب» عن الشيخ كشك بما معناه في عبارات سأفصحها: «إنك ستجد أن كل خصومه هم خصوم الرئيس السادات أو – على الأقل – عدد كبير منهم. خذ مثلاً أم كلثوم وعبد الحليم حافظ. هذان رمزان من رموز مصر في الستينات. وكانا على صلة وثيقة بالرئيس عبد الناصر. لهذا ركز عليهما بنقده الساخر ذي الطابع الإزرائي والتحقيري».
في هذا الرأي تكلف واعتساف، إذ لا تسنده أي بينة. ولا أدري ما الذي سيمنع كشك من هجائهما بوصفهما مطربة ومطرب عبد الناصر والناصرية. والزمن كان الزمن الملتهب في هجوم عبد الناصر والناصرية.
إن رأيه ينطبق على قصيدة كتبها الكاتب والشاعر الإخواني القطبي يوسف العظم، نشرها أول مرة في مجلة «الشهاب» الإخوانية في منتصف السبعينات، وكان عنوانها «خدريهم يا كوكب الشرق». فاحتفى الإسلاميون بها، وأتى بعض شعرائهم بمثلها، فنشروها في تلك المجلة.
كتب يوسف العظم لقصيدته التي هجا بها أم كلثوم مقدمة نصها ما يلي: «يقولون أم كلثوم ظاهرة عجيبة، وأضيف، وظاهرة تخديرية رهيبة، ما أصابتنا كارثة، أو حلت بنا مأساة إلا وقفت تغني لليل، والخمر والحب الضائع، حتى في أعقاب الكارثة المدمرة، في الخامس من حزيران، وقفت تغني للمترفين، والدم البريء على كل رابية، والعار الأسود يجلل جباه المخدرين، ممن راحت تصفع وجوههم، ولا يشعرون: (هذه ليلتي وحلم حياتي). لعل هذا الضياع الذي أصاب الأمة، وهذا الخدر الذي سرى في أعصابها هو الذي دعا صحافياً إلى القول في صحيفته البيروتية مباهياً: إني أعرف مكانة أم كلثوم عند العرب، وأعرف كذلك أن حب الكثيرين عند العرب، وأعرف كذلك أن حب الكثيرين لها يوازي حب فلسطين».
هذه القصيدة التي حمل فيها يوسف العظم أم كلثوم مسؤولية هزيمة 67 وضياع القدس، قصيدة شهيرة عند الإسلاميين، ويرتكزون عليها في موقفهم السياسي والثوري من أم كلثوم. السبب المباشر لتحميل يوسف العظم أم كلثوم هزيمة 67 هو حنقه عليها لإسهامها المالي الكبير في دعم المجهود الحربي لتسليح الجيش المصري، حيث أحيت حفلات متعددة في مصر، وأحيت حفلة في الكويت وحفلة في باريس خصصت فيه جميع إيرادات هذه الحفلات للجيش المصري.
كما أن رأي وائل لطفي ينطبق على الإخواني القطبي الدكتور عبد الله النفيسي، الذي قال عن أم كلثوم في برنامج «الصندوق الأسود» الذي يعده ويقدمه عمار تقي: «إنها حولت المنطقة العربية إلى غرزة حشيش». وقال عنها في حلقة أخرى من هذا البرنامج: إنها سفيرة الفساد، وإنها فن للإيجار... إلخ.
غلاة اليساريين لسبب سياسي يتعلق بعدائهم لعبد الناصر ولسبب آيديولوجي غير ديني وبهذا يختلفون عن الإسلاميين، كانوا يهاجمون أم كلثوم، وحملوها قبل الإسلاميين مسؤولية هزيمة 67، وكانوا قبل هذه الهزيمة وبعدها يرون أن فنها فن مخدر للشعوب العربية. لكن هذا لا يعني أن الإسلاميين استمدوا موقفهم من موقف اليساريين منها.
فموقف الإسلاميين من الفن الغنائي الذي يتجنب أن يكون موقفاً دينياً مباشراً، ويتدثر بالموقف السياسي الثوري مستمد من موقف سيد قطب في الفترة التي كان متحمساً فيها لثورة يوليو (تموز). وموقفه هذا عبر عنه في مقالين هما: «أخرسوا هذه الأصوات الدنسة» و«أدب الانحلال». وإن قرأت هذين المقالين، فستعرف أن قصيدة العظم وكلام النفيسي منسوجان من خيوطهما. ويحسن الرجوع إلى ما كتبه عن المقالين حلمي النمنم في كتابه «سيد قطب وثورة يوليو»، فلقد ألقى عليهما أضواء كاشفة. وللحديث بقية.