خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الربيع الأفغاني... أميركا صديقة {طالبان}

تدخلت أميركا أوباما بالنفوذ السياسي أثناء «الربيع العربي»، قالت إنها تريد إجراء اقتراع صندوقي حر لكي ينتخب الشعب من يحكمه. فعلت أميركا ذلك من قبل في غزة وفازت «حماس»، وفي العراق وفازت الميليشيات الدينية. وليس هذا بالأمر الغريب ولا المفاجئ، بالنظر إلى الحركة الحسابية للزمن. التحديث السياسي، وقيم المواطنة، مولود حديث في مجتمعاتنا التي تربت لمئات السنين على نمط مختلف، لا يتقبل المساواة التامة بين المواطنين بلا اعتبار للمعتقد والنوع والعرق. الميليشيات التي أوصلها الاقتراع الصندوقي هي الوجه المسلح للدفاع عن قيم الدولة القديمة، الرافضة للدولة الوطنية، والساعية إلى إعادة الإمبراطوريات الدينية. لم يكن ذلك صدفة.
الانفصال عن كنيسة روما في إنجلترا لم يكن، لحسن حظ أنصاره، بالاقتراع الصندوقي، وإلا لرفض رفضاً قاطعاً. القوانين المنظمة للثورة الصناعية، بل وحركة الميكنة نفسها، كانت فعلاً نخبوياً بطبيعته. ولو ترك الأمر للاقتراع الصندوقي لرفضته أغلبية، ملايين من العمال والفلاحين لم يعد سوق العمل بحاجة إليهم، القادر منهم اضطر إلى البدء من جديد، بتعلم مهارات جديدة، وينتقل من حضن العائلة إلى موطن سكني جديد، أما غير القادر فلم يملك حتى رفاهية الاضطرار. لو افترضنا جدلاً أن أميركا تدخلت وقتها وأصرت على التصويت على هذه التغيرات لكانت النتيجة بقاء إنجلترا في عهد هنري الثامن.
لكن أميركا لم تكتفِ حتى بالتدخل كحكم محايد، يضمن أرضية الملعب مفتوحة للجميع، بل فتحت الطريق على مصراعيه أمام الميليشيات، في العراق بالتخلص من خصومها وحل الجيش العراقي. وفي مصر، على اختلاف الظروف والوسيلة، بالضغط السياسي نحو انتخابات في ظل غياب الحزب الوحيد الآخر المنظم القادر على مواجهة «الإخوان» وهو الحزب الوطني. لو كنت في منصة القاضي وأصدرت حكمك بتجريم الحزب الوطني وتشجيع «الإخوان» فهذا حكم جائر يدينك ويدين موازينك. «الإخوان» أعمق جرماً، خصوم كاملو الخصومة لكل القيم الحديثة التي ادعت التدخل لإقرارها. وما تشجيعهم وفتح الطريق لهم إلا مكافأة على نشرهم العداوة والبغضاء بين المواطنين مختلفي الدين، وعلى نشرهم الدعاية ضد النساء اللاتي لا يخترن ما يملونه عليهن، وعلى اغتيالهم المعنوي للكتّاب، ثم دفاعهم في المحاكم عمن يكملون المهمة بالاغتيال الجسدي.
حين تضع ما سبق في مقابل تدخل أميركا ضد طالبان ترى مفارقة صعبة التجاهل. تدخلت أميركا في أفغانستان في 2001 لإسقاط (س)، تدخلت في العراق في 2003 فمهدت الطريق لـ«س» للوصول إلى الحكم، وتدخلت في دول الربيع العربي في 2011 ففتحت الباب أمام «س» لامتلاك السلطة، حيث (س) هي الميليشيا الدينية المتغيرة الأسماء.
في الظاهر يبدو الفارق واضحاً: طالبان تجاسرت على أميركا (آوت المعتدين)، أما الميليشيات العراقية والمصرية فقد منحتها ضمانات بعدم الاعتداء، لكن هذا الفارق لا يحل المفارقة، بل يعززها؛ للأسباب التالية:
أولاً، كأن الولايات المتحدة لا تمانع في سلوك الميليشيات بشرط أن يقتصر خطرها على محيطها. وهذا يذكرني بما جاء في كتاب «مصنع الانتحاريين» - شون أونيل ودانيال مكغروري - عن «اتفاق الجنتلمان» بين المخابرات البريطانية والإرهابيين على غض الطرْف عن دعايتهم المتطرفة في بريطانيا بشرط ألا تسال دماء على الأراضي البريطانية. ما حدث بعد ذلك معروف.
ثانياً، الفارق الوحيد بين طالبان وغيرها أنها سبقت إلى مقعد السلطة (جاء الربيع الأفغاني مبكراً) فرأينا سلوكها هناك، لكننا رأينا سلوك الميليشيات العراقية لاحقاً. وفي مصر رأينا سلوك الجماعات الميليشياوية في البناية والشارع والجامعة ومع المختلفين من كتّاب وأكاديميين، وهو سلوك ما اختلف عن سلوك طالبان إلا في مساحة الحيز الذي استطاعوا فيه ممارسة سلطويتهم. لم نكن نحتاج إلى وصولهم للحكم لكي تكتمل التجربة بينما نكتفي بدور فئران معامل لا تدري مصيرها، فالبعرة تدل على البعير، لكنهم وصلوا إلى الحكم. وفي مشهد معبر عما هو قادم، رأينا إرهابيين مدانين مدعوين لمجاورة الرئيس محمد مرسي في منصة الاحتفال بذكرى أكتوبر (تشرين الأول)، بعض هؤلاء مدان بمؤامرة قتل السادات في الذكرى نفسها.
ثالثاً، لقد أنفقت الولايات المتحدة 83 مليار دولار على مدار عشرين عاماً لكي تصطنع في أفغانستان جيشاً قادراً على مواجهة طالبان. هذا إجراء استثنائي. غرضه الواضح منع الحركة - المؤيدة شعبياً - من الاستمرار في الحكم. بينما في العراق حلت الجيش العراقي القائم، ثم استبدلت به جيشاً لا يزال دوره أضعف من دور الميليشيا. أما في مصر فأدانت وقوف الجيش الوطني بجانب الشعب لإزاحة ميليشيا «الإخوان» عن الحكم. في دولة لا تملك جيشاً تصطنع جيشاً يقاوم الميليشيا. وفي دولة تملك جيشاً متماسكاً تدين تدخل الجيش لهزيمة الميليشيا.
قد يقول قائل ولكن طالبان وصلت إلى الحكم بالسلاح، بينما وصلت الميليشيات الأخرى بصناديق الاقتراع. أحيلك إلى بداية المقال. وإلا، هل تعتقد أن طالبان لا تحظى بدعم شعبي كاف لكي تفوز في الانتخابات؟ طالبان لم تكن لتكمن ثم تعود بقوة بعد عشرين عاماً إلا بدعم شعبي. دعم شعبي أصدق من دعم الصناديق التي أزيح فيها خصوم الميليشيا الأقوياء عن الطريق.
مهم مع كل درس جديد في الواقع السياسي من حولنا أن نتذكر خطورة التفكير الخيالي اليساري، المدعوم أكاديمياً، والمروّج إعلامياً. قشرة من ذهب منمق تحتها الفالصو كامن. اختصار للزمن يناسب رواية ميلودرامية، وجّهها كاتبها عنوة إلى حيث يريد. أما المجتمعات وتغيراتها السياسية والاقتصادية والقيمية فلا تسير بهذه الطريقة. المجتمعات الغربية نفسها أوضح مثال.