محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

دروس أغسطس!

يوم الثاني من أغسطس (آب)، بعد غد، يصادف العام الحادي والثلاثين للاحتلال العراقي للكويت، نحو نصف الكويتيين اليوم لم يشهدوا تلك الأيام أو كانوا في سن صغيرة، وكذلك جزء غير يسير من العراقيين. كُتب الكثير حول تلك الأيام المشؤومة، وتصلنا مع مر السنين معلومات عن ظروف ذلك الاحتلال (وهو التعبير الأكثر دقة لتلك الأحداث) بعضها غير دقيق وأخرى مختلقة، ويحار المرء إن كان مثل هذا الحدث وهو قريب قد رُكب عليه كل تلك الأخبار والقصص وبعضها مزيف، فما بالك بأحداث أخرى شهدها الناس من زمن؟ فكثيراً ما تختفي الحقائق الصحيحة أمام سيل من الادعاءات أو الافتراضات. لقد كُتب عن زمن الاحتلال الكثير ممن شهدوه وما شاهدوه من وجهة نظرهم، وربما يُكتب في المستقبل الكثير تفسيراً واستنتاجاً أو الإتيان بفرضيات لم تطرح حتى الآن، إلا أني هنا كشاهد على بعض الحدث من الداخل، ولا أقول كل الحدث، أضع ما يمكن أن يوصف بدروس الاحتلال بعيدة المدى.
أولاً: لم يعد المجتمع الكويتي بعد الاحتلال كما قبله. كان قبله مكان العمل العربي ورافعته، ووضعت الكويت الرسمية والشعبية كل رهانها على التكاتف العربي، على الرغم من كل ذلك المد والجزر المروع الذي اتصفت به العلاقات العربية - العربية، فكانت الصحافة الكويتية منبراً للأفكار العروبية، وكان البرلمان مسانداً للقضايا العربية، وكانت المؤسسات التنموية الثلاث الرئيسية في الكويت موجهة للخير العام العربي، من هيئة الخليج والجنوب، إلى الصندوق الكويتي، إلى الصندوق العربي، مجردة من أي مشروع سياسي غير مصالح الناس. جاء الاحتلال لقتل ذلك الحلم، وأصيب أهل الكويت بصدمتين متلازمتين؛ الأولى فجور الاحتلال وأعماله البشعة، والأخرى انقلاب بعض من احتضتنهم الكويت وعضدتهم فوقفوا دولاً ومنظمات وقوى سياسية مع الاحتلال، في الوقت نفسه لم يقع الطلاق البائن بين الكويت وبُعدها العربي، وقد تسامت على الجراح. على سبيل المثل، رغم موقف اليمن الرسمي في الوقوف مع الاحتلال وقطع التعامل معه وقتها، فإنه بعد فقط أربع سنوات عاد مكتب التنمية الكويتي في صنعاء إلى العمل النشط في التعليم والتطبيب وشق الطرق، وهذا الأمر تم مع كل الدول التي عرفتهم السياسة الكويتية وقتها بـ«دول الضد» بما فيهم منظمة التحرير الفلسطينية. هذا الدرس يعني في شموله أهمية اللُّحمة العربية وضرورتها للتعامل الإقليمي على الرغم من الصعاب وعلى الرغم استهبال القيادات وشططها، فالأولى إذن أن تنظم هذه العلاقة العربية - العربية بشكل عقلاني وأيضاً غير عاطفي أو مجامل، فقد أوصلت المجاملة في العلاقات العربية إلى كوارث، هناك مصالح مشتركة لتحدد ويعمل على تعظيمها، وهناك خلافات يجب حلها وتفهم هواجس الآخرين حولها وأيضاً وضع العقلانية لا العاطفة أولاً والسير نحو الخير العام المشترك.
ثانياً: الحكم الوحشي في الداخل العراقي والتنمر على الآخرين وغرور القوة والصلف والجهل بأصول الحكم يؤدي إلى مزالق قاتلة. لقد كانت تلك المواصفات جميعاً في ثنايا الحكم البعثي العراقي، فالكويت المسالمة والتي ترغب في جوار صحي، كانت على مدى عقود مكاناً للتنمر والتعامل بالغلظة والفظاظة من ذلك النظام، ولم يكن الأمر مستغرباً فقد كان النظام شمولياً وقمعياً مع كثير من شرائح الشعب العراقي، وكان يعرف مدى محدودية قاعدته فلجأ إلى «الإقناع بالقوة» وإشاعة الخوف وتبني استراتيجية تنمرية فاقعة، نحن نعرف اليوم كيف أدى ذلك كله من الانفصال عن العصر وجنون القوة الزائفة، إلى ما يعانيه العراق اليوم من أزمات مستحكمة لا يعرف أحد كيف يخرج منها ومتى. ينظم العلاقات الدولية في العالم اليوم قوانين وشرائع مختلفة تماماً عن القيم العشائرية وجنون التوسع والشعارات الفارغة، كان نظام البعث مخيفاً وخائفاً في الوقت نفسه تتملكه الريبة، الدليل أقوال المشاركين، الذين تركوا لنا ثروة من «شاهد عيان» على تلك العزلة والخوف من الآخرين، ورخص الروح الإنسانية لدى ذلك النظام، والحكم من خلال العسس والمخبرين.. هكذا نظام يحمل حتفه، مهما رفع من شعارات.
ثالثاً: أحد أهم دروس أغسطس في منطقتنا هو التكاتف بين دول الخليج، فقد وجد الكويتيون يداً ممتدة للاستقبال والعون الشعبي والرسمي في رحاب المملكة العربية السعودية، فانتقلت الحكومة وشرائح شعبية إلى تلك الحاضنة، كما استقبلت كل من البحرين وقطر والإمارات وعمان مواطني الكويت بكل أريحية وترحاب، وهو أمر لم يكن مستغرباً لمن يعرف عمق العلاقة بين هذه المكونات تاريخياً، ولكن الأهم هو الحفاظ على تلك الوشائح وتطويرها، ولقد اتخذت حتى الآن خطوات مشهودة تجاه ذلك، إلا أن بعض المتصيدين يحاولون جهدهم، تحت ذرائع مختلفة، النيل من هذه اللحمة، مستغلين فروق الاجتهادات التي هي طبيعية ومحاولة تضخيمها.
رابعاً: لعل مجمل الدروس تأخذنا إلى اليوم، فهناك دول في الجوار تتنمر على الآخر وفي الذهن الجمهورية الإسلامية التي توزع عسكرها على كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتتحدث عن أحقيتها في الهيمنة على الجوار الجغرافي من جديد بغطرسة القوة وبإشاعة آيديولوجيا تغري بها السذج، وهي تكرر في العمق خطيئة أغسطس 1990 نفسها، التي أدت في النهاية إلى إفقار وتدمير العراق. وإضافة إلى أن اقتصادها يعاني من أزمات، تمتد يد إيران العسكرية إلى أماكن بعيدة، وفي الغالب في الجسم العربي، وتتراجع بشكل كبير معدلات التنمية لديها... كل ذلك بسبب عُسر في فهم المتحولات الدولية، وإطعام جماهيرها بدلاً من الخبز الشعارات القومية.
آخر الكلام:
الدول، وخاصة الشمولية، مثل كثير من البشر قليلاً ما تستفيد من أخطاء الآخرين، بل وحتى من أخطائها.