هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

رحلة كيسنجر السرية إلى الصين ومسار الحرب الباردة

قبل خمسين عاما، وجهت الولايات المتحدة ضربة إلى الاتحاد السوفياتي، ولكنها ساعدت أيضا في خلق وحش جيوسياسي جديد.
يشهد هذا الشهر مرور 100 عام على ميلاد الحزب الشيوعي الصيني، وهي الذكرى المئوية التي احتفل بها الرئيس شي جينبينغ بالتعهد بأن أعداء الصين سوف «تتحطم رؤوسهم دامية على جدار فولاذي ثقيل». ويصادف التاريخ أيضا الذكرى السنوية الخمسين للحظة الأكثر تفاؤلاً في العلاقات الصينية الأميركية: وهي رحلة هنري كيسنجر السرية إلى بكين في عام 1971.
فلقد أنهت الاجتماعات بين كيسنجر، مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك، ورئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، جيلاً من العداء ومهدت الطريق أمام شراكة إستراتيجية تاريخية بين البلدين. واليوم، فيما تندفع الصين والولايات المتحدة نحو المواجهة، من المغري أن ننظر إلى الانفتاح على بكين باعتباره بداية لما يقرب من 50 عاماً من الانخراط الخاطئ إزاء قوة معادية بالأساس. ولكن من الجدير بنا أن نتذكر أن الانفتاح بدأ باعتباره سياسة ذكية وبالغة الصرامة، تلك التي ساعدت في الفوز بالحرب الباردة وغيرت علاقة الصين مع العالم بأسره.
كان التقارب بين الولايات المتحدة والصين مخالفاً للمنطق، كما أنه جاء بعد فترة طويلة. لقد كانت الصين هي الدولة المارقة الأخيرة في العالم في خمسينات وستينات القرن الماضي - وهي الأكثر تطرفاً بكثير من حليفها الشيوعي، الاتحاد السوفياتي. فقد أدت سياسات الرئيس ماو تسي تونغ إلى موت عشرات الملايين من شعبه من خلال سياسة «القفزة العظيمة للأمام» ثم الثورة الثقافية. فلقد خاضت بكين حربين غير معلنتين ضد الولايات المتحدة، في كوريا وفيتنام، ثم عملت على تعزيز التمرد والثورات في العالم النامي.
ومع ذلك، أدرك المسؤولون الأميركيون منذ فترة طويلة أن الهندسة الإستراتيجية للحرب الباردة ستتغير بشكل كبير إذا كان بالإمكان تحقيق التباعد بين الصين والاتحاد السوفياتي. وشككوا في إمكانية تعايش العملاقين الشيوعيين إلى الأبد. وخلال حقبة الخمسينات، استخدمت إدارة الرئيس أيزنهاور تدابير غير تقليدية للتعجيل بهذا الانقسام، إذ فرضت ضغوطاً اقتصادية وعسكرية شديدة على بكين على أمل أن يتقدم الزعيم ماو بعدها بمطالب مفرطة من موسكو للحصول على الدعم.
وبحلول أواخر الستينات، كانت هذه العلاقة قد تفككت، وذلك بسبب التوترات الآيديولوجية والجيوسياسية الأكثر عمقاً من السياسة الأميركية. فقد كانت الصين والاتحاد السوفياتي قاب قوسين أو أدنى من الحرب. فقد قرر الزعيم ماو، الذي كان معزولاً تماماً بعد هوس الثورة الثقافية، أن يستخدم «البرابرة الأبعد» (الولايات المتحدة) لإتقاء شر «البرابرة المقربين» (الاتحاد السوفياتي).
وكانت النتيجة، التي ذكرتها في كتابي الجديد «صراع الشفق»، عبارة عن مناورة دبلوماسية ماكرة أسفرت عن رحلة كيسنجر إلى بكين، ثم زيارة نيكسون في العام التالي، ثم أعقب ذلك نشوء تحالف ضمني بشأن الحرب الباردة. والآن، صار لزاماً على الاتحاد السوفياتي العمل على احتواء خصمين قويين يعملان على التصدي له، بل كان لزاماً عليه أن يخشى اندلاع حرب ذات وجهتين ضد حلف شمال الأطلسي والصين.
كما سهلت الشراكة الجديدة الإصلاحات الاقتصادية التي أسفرت عن دفع الصين نحو الازدهار الرأسمالي بعد وفاة ماو، وبالتالي غرس الخنجر الآيديولوجي في قلب النموذج الاشتراكي الراكد في موسكو.
ومن جانبها، نجحت بكين في كسر عزلتها الدولية، واكتسبت القدرة على الوصول إلى المؤسسات العالمية والاقتصاد العالمي. وبدأت تتلقى معلومات استخباراتية وتكنولوجيا، وسلعاً عسكرية ذات قيمة من الولايات المتحدة، بالاضافة إلى مساعدات، وتجارة، واستثمارات من حلفاء أميركيين مقربين مثل اليابان. ومن نواح عديدة، كان الانفتاح الذي بدأه كيسنجر سبباً في خلق الظروف العالمية اللازمة لنهوض الصين.
بعد مرور خمسين عاماً، قد يبدو هذا كخطأ فادح - لقد خلقت الولايات المتحدة وحشاً جيوسياسياً جديداً في الوقت الذي تفترض فيه بسذاجة أن الوحش سوف يذوب تلقائياً. ورغم هذا فإن كيسنجر ونيكسون كانا «واقعيين تماماً» في مستهل الأمر.
فقد كتب كيسنجر يقول إن الصينيين كانوا «منظّرين آيديولوجيين شرسين يختلفون معنا تمام الاختلاف حول مسار العالم». ولقد أدركت الإدارة الأميركية أن إعادة تنضيد العلاقات تتطلب بعض التنازلات الأخلاقية البغيضة مثل التخلي عن تايوان، وهي واحدة من أكثر حلفاء الولايات المتحدة ولاء، وتناول شخصية الزعيم ماو بالانتقاد. كان الثمن الأخلاقي المترتب على المصالحة باهظاً، ولكنه لم يكن أعلى من الفوائد الأخلاقية والاستراتيجية التي نجمت من التفوق على موسكو والانتصار في الحرب الباردة.
حدثت المشكلة الحقيقية لاحقاً. كان من المفترض أن تؤدي حملة ميدان السلام السماوي في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي بعد عامين، إلى تشجيع إعادة التقييم الجوهرية للسياسات الأميركية، وإنهاء زواج المصلحة الجيوسياسية الذي تم إقراره في عام 1971.
وبدلاً من ذلك، دفعت الأجواء المتوترة في الحقبة الأحادية القطبية الولايات المتحدة إلى مضاعفة مشاركتها مع الصين إلى ثلاثة أمثالها، على أمل أن تنجح قوى العولمة والتحرير في نهاية المطاف في تحول نظام حكم عنيد ووحشي لا مصلحة له في التحول. وجمود هذه السياسة، بالإضافة إلى حقيقة أن الولايات المتحدة عالقة في أزمة التجارة مع الصين، جعلها تستمر لمدة عقد من الزمان على الأقل بعد أن كانت عيوبها واضحة.
وفي الوقت الراهن، ليس هناك أمل في حدوث تحسن على المدى القريب في العلاقات الأميركية الصينية. إن البحث عن إنجاز دبلوماسي كبير يمكن أن يكون في الواقع خطيراً إذا كان يشتت انتباه واشنطن عن اتخاذ الإجراءات العاجلة لدعم دفاعاتها في المجالات العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية للمنافسة. لكن انفتاح كيسنجر - نيكسون على الصين، إن لم يكن شيئاً آخر، هو تذكير بأن الأعداء القساة يتصالحون بين الحين والآخر - حتى لو تطلب الأمر سنوات عديدة والكثير من الاضطرابات لحدوث ذلك.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»