سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صيف العرب فصول فصول

الناس في الصيف. والصيف قصير لشدة ما هو جميل وفَرِح وكثير الثمار. وأنى كانت الآداب التي تقرأ فيها تجد أن الصيف كريم بلا حساب، وبساتينه كثيرة، وتفاحه أحمر لماع. والتفاحة يرِد ذكرها جميلة رمزاً غالياً في الأديان والتواريخ على السواء. وكما هي رمز أول في التوراة، هي أول الرموز الأسطورية في ملحمة «الإلياذة». لكنها مثار خلاف وغضب. إذ يتمتع الناس بصيف يوليو (تموز) يخافون عليه ويخافون منه. وقد انقسم العرب حول ثورات يوليو ولا يزالون. فرنسا أيضاً لا تزال منقسمة حول 14 يوليو، الثورة التي كانت «حواء» الثورات في العالم. منهم من يرى فيها انتصار «الحرية والآخاء والمساواة»، ومنهم من يعتبرها أم العنف والمؤامرة وحروب الرفاق.
قلدها الروس، وقلدها الأوروبيون، وقلدها العرب. وقيل في 14 يوليو بغداد ومذابحها و«تقصيب» نوري السعيد، والمحاكمات المريضة التي أدارها فاضل المهداوي ابن خالة الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم، إنها كانت الأكثر وحشية في التاريخ، لكنها كانت نسخة حرفية عن ثورات أخرى. وكان مدعي عام الثورة الفرنسية، توكان تونفيل، أكثر دموية واحتقاراً للقانون، ألف مرة من القانوني المفوه، العقيد الركن ورمز العدل المهداوي.
تميزت ثورات يوليو العربية عن بعضها البعض بمدى العنف وخطب السخف. نجت ثورة يوليو في مصر من الاثنين، بينما حول عسكر سوريا والعراق الثورة إلى مباراة في الكلام المنسوخ والسجن المفتوح والكلام المضحك عن الحريات. ألقى الفريق أمين الحافظ في دمشق خطاباً ملعلعاً بالجثث وانتهى لاجئاً سياسياً في بغداد. والمدني علي صالح السعدي، أرسل إلى رفاقه في «البعث» أشهر البرقيات «اسحقوهم حتى العظم». وأعطى العظم انطباعاً للعرب والعالم بأنه سفاح.
بعد عامين تعرفت إلى الرجل في باريس. وكنا نلتقي تقريباً كل يوم في مقهى «السان ميشال» مع مجموعة أصدقاء، أكثرهم من طلاب باريس. وبعد بدء الجلسة بقليل، كان علي يتذكر زوجته هناء، وأولادهما، ويبدأ في البكاء. ثم جاء إلى بيروت وانضم إلى مقهاها الأشهر «الهورس شو» القريب من «النهار». وكان يطلب مني كل يوم أن أوافيه إلى هناك، غير مدرك أنني في بيروت عامل أشقى وأحاول أن أتجنب تقارير المخابرات العربية عن عالم البعث والعبث، وآداب السحق حتى العظم. وصار علي يجلس وحيداً في زاوية من الماضي. ولم يعد كلامه مهماً لأحد، حتى لصدام حسين الذي يهاجمه. وكبرت أعداد «السابقين» والمنفيين في مقاهي بيروت، وصولاً إلى أكرم حوراني، نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة أيام الوحدة مع مصر. وكان الحوراني يروي بمرارة وبلا كلل، كيف كان يعامَل كموظف عادي ويُسمح له في السفر بحقيبة ملابس واحدة.
سابقون. لا رتب، ولا زعامات، لا شيء. ذكريات يوليو، وبرقيات دامية، وبكائيات رجال من ماضٍ لا مستقبل له.