تيريز رافائيل
TT

هل تصبح حروب الوعي الاجتماعي الأميركية حروب بريطانيا كذلك؟

«كان لزاماً عليّ الرحيل عن أميركا، فقد أصبح الوضع قبيحاً ومظلماً للغاية. وتزايدت بداخلي مشاعر التشاؤم على نحو بالغ لدرجة خلقت بداخلي حاجة إلى فعل شيء مختلف» - هكذا شرح منظم استطلاعات الرأي فرانك لونتز، الذي يعمل حالياً زميلاً زائراً لدى مركز الدراسات السياسية، قراره بقضاء الصيف في بريطانيا لدراسة المشهد السياسي هناك.
بخلاف «بريكست»، ربما تبدو بريطانيا أشبه بابن العم الأكثر هدوءاً ولطفاً للولايات المتحدة. ومع ذلك، نجد أنه خلف هذه القشرة من اللطف، ثمة غضب يغلي أسفل السطح، حسبما تكشف نتائج الاستطلاعات التي أجراها لونتز.
أيضاً، هناك مشاعر خيبة أمل وانعدام ثقة تجاه كل من السياسيين وقيادات مجال الأعمال. وعلى أفضل تقدير، يمكن لهذه التيارات إحداث تحول في مسار التوجهات السياسية وحسم انتخابات. أما على أسوأ تقدير، فإن القلق يساور لونتز من إمكانية أن تتسبب هذه التيارات في تقويض الديمقراطية ذاتها.
وتبدو نتائج الاستطلاعات التي أجراها لونتز بمثابة رسالة تحذير للقيادات السياسية لبريطانيا. الواضح أن البريطانيين لا يعانون القدر ذاته من الانقسام الذي يعانيه الأميركيون فيما يتعلق بما يقدرونه، لكنهم بالتأكيد يتسمون بالاستقطاب فيما يخص السياسات والأولويات، الأمر الذي ستكون له عواقب بالتأكيد. وإذا ما اخترت استخدام لغة سياسية مثيرة للانقسامات - بمعنى آخر، إذا ما مضيت في تأجيج حروب ثقافية - فلا أحد يمكنه تحديد ما سيحدث بعد ذلك.
أما النتيجة التي ينبغي أن تثير أكبر قدر من القلق في أوساط السياسيين فهي أن 27 في المائة فقط من المشاركين في الاستطلاع أعربوا عن شعورهم بأن بلادهم يجري الاستثمار فيها.
أما الفجوة الكبيرة هنا، فلم تكن بين الشمال والجنوب أو اليسار واليمين، وإنما بين سكان الحضر ومن يعيشون بالضواحي. ولدى سؤالهم إذا ما كانوا قد استثمروا في مستقبل بريطانيا، أجاب 53 في المائة من سكان الحضر بالإيجاب، مقارنة بـ38 فقط من سكان المدن الصغيرة أو المزارع.
من جهته، قال لونتز في إطار حديث دار بيننا «أعتقد أن نقطة الانعطاف ستأتي في غضون أشهر». وقد تسببت إجراءات الإغلاق وإغلاق المدارس وتغييرات أخرى في تفاقم الكثير من التفاوتات القائمة منذ أمد بعيد داخل بريطانيا.
ويعتبر التشاحن الثقافي مصدر الطاقة المتجدد الأكبر بالمجال السياسي، فهو منخفض التكلفة ويمكن الاعتماد عليه في وقت الحاجة، طالما كانت هناك تفاوتات وشعور بالظلم.
جدير بالذكر في هذا الصدد، أن محاولة استدعاء قيم جوهرية معينة (مثل دعم خدمة الصحة الوطنية أو الإنصاف) وتأجيج المخاوف (الهجرة) ساعد في توجيه عملية التصويت حول «بريكست»، ودفع ببوريس جونسون نحو السلطة وساعده على الفوز بإعادة انتخابه عام 2019.
اليوم، يحاول كل من جونسون و«حزب العمال» المعارض صياغة الخطاب الدائر حول التفاوتات في المجتمع من منظور ثقافي. ومن بين أحدث الأمثلة على ذلك تقرير صدر عن اللجنة البرلمانية لشؤون التعليم، الشهر الماضي، حول «المنسيين» - الطلاب البيض من أبناء الطبقة العاملة الذين يتَّسمون باستمرار بأداء تعليمي ضعيف. ودارت الفكرة الرئيسية للتقرير حول مصطلحات مثل «ميزات البيض» لا تعكس الواقع ولا تخدم سوى في إثارة سخط من يعيشون ذلك الواقع. (أما المصادفة فهي أن الكثيرين للغاية من أبناء الطبقة العاملة من البيض تحولوا في الفترة الأخيرة لدعم حزب المحافظين).
وتبدو المشكلات حقيقية للغاية، فعلى سبيل المثال أفادت دراسة بأن نسبة الطلاب البيض الذين يحصلون على وجبات مدرسية مجانية الذين ينتقلون إلى التعليم العالي كانت الأدنى بين جميع المجموعات العرقية، باستثناء الرحالة الآيرلنديين وأقليات الغجر أو «روما». وفي الوقت الذي يحقق 67 في المائة من الطلاب ذوي الأصول الصينية الذين يحصلون على وجبات مدرسية مجانية المعايير اللازمة للتقدم، لا يحقق هذه المعايير سوى 53 في المائة من الطلاب البيض الذين يحصلون على وجبات مدرسية مجانية. أيضاً، يتميز الطلاب أصحاب الأصول الهندية والكاريبية والأفريقية من أبناء البشرة السمراء بمستويات تقدم أفضل.
ومع ذلك، تتسم الصورة العامة للتباينات الاجتماعية بالتعقيد؛ ذلك أن الأقليات العرقية عانت على نحو غير متناسب خلال أزمة جائحة فيروس «كوفيد ـ 19»؛ لأنها كانت الأكثر احتمالاً لأن تكون من بين العاملين المحوريين في الخطوط الأمامية، ويعيشون داخل مناطق سكنية مزدحمة. كما أن ثمة توثيقاً قوياً للتمييز داخل منظومتي الشرطة والعدالة الجنائية.
وكشف تقرير آخر صدر عن معهد الدراسات المالية الشهر الماضي، عن أن أطفال الجيل الثاني للمهاجرين من أبناء الأقليات يتفوقون في الأداء التعليمي، لكنهم عادة ما لا يبلون بلاءً حسناً داخل قوة العمل. ومقارنة بالغالبية، يميل أبناء الأقليات العرقية إلى تحقيق معدلات توظيف أقل، لكن هذه الفجوة تتضاءل بدرجة هائلة لدى الأخذ في الاعتبار الطبقة الاجتماعية أو المستوى التعليمي.
وعند إمعان النظر في العناصر، يبدو واضحاً أن ثمة كلمة بسيطة غائبة عن الحروب الثقافية الدائرة في بريطانيا: الحقيقة أن قضية التفاوت تتسم بقدر هائل من التعقيد على نحو لا يسمح باختصارها في المظالم أو المصاعب التي تواجهها فئة واحدة من المجتمع. وهناك مشكلات عميقة تواجه الطبقة العاملة من البيض، وفي الوقت ذاته ثمة حاجة إلى حماية مصالح أبناء الأقليات ومناهضة التمييز ضدهم.
حتى هذه اللحظة، لم تصل الحروب الثقافية في بريطانيا إلى المستوى المدمر الذي بلغته داخل الولايات المتحدة، لكن لونتز يعتقد أنها في طريقها لبلوغ هذه النقطة. في الواقع، فإن التفاوتات المتفاقمة جراء جائحة «كوفيد - 19»، وأزمة الهوية المشتعلة داخل «حزب العمال» وقدرة جونسون الفريدة على إطلاق رسائل تدغدغ العواطف، تخلق جميعها مزيجاً ينذر بالخطر.
وإذا ما رغبت بريطانيا في تجنب طرفي النقيض اللذين أوضحهما لونتز - حركة وعي اجتماعي يسارية تثير سخط الكثير من الناخبين البيض وحركة شعبوية يمينية تتجاهل التفاوتات العرقية وتتغذى على الأخطار المبالغ فيها - فإنه يتعين على جونسون الاعتراف بأين تكمن المشكلة على وجه التحديد، وليس تأليب مجموعات الناخبين ضد بعضهما بعضاً.