عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
TT

مئوية تأسيس العراق... ثقوب القوة والزمان

للمكان شخصيته التي تحفره روافد القوة ومسارات الاتساع والانقباض. العراق مكان له عشرات الحواس، بل أكثر من ذلك بكثير. أنهاره لم تكن مجرد مياه تعبر الأرض، بل كانت تصنع خرائط العقل والفكر وأسئلة الإنسان الذي ينسج الخيوط بين الأرض والسماء. كل حجر تحت الأرض أو فوقه له لسان يعيد لغة الحياة في صمت أو دم أو فلسفة وفكر وقوة تتسع عبر الأرض. 1921 ولدت دولة العراق بنسغ جديد. مملكة فيها من كل الزمان بتاريخه ودينه وصراعه ومذاهبه ورفرفة الحلم الذي ما خطر على بال من تخيل أو فكر أو قاتل. عراق ليس عباسياً ولا أموياً أو صفوياً ولا ساحة معارك الحرب الأهلية العربية الأولى. هناك التقى أبو نواس مع المتنبي والبحتري وعلماء الكلام وفقهاء المذاهب الإسلامية والوراقون يكتبون ما قاله ابن الراوندي وإخوان الصفاء. الحسن البصري والمعتزلة والصوفية والفلاسفة يسبحون في ترجمة ما قاله حكماء الإغريق.
تداخل العقل بالدم والدين عندما هتف أهل العراق يستدعون علياً بن أبي طالب ثم ابنه الحسين لتكون حفرة يعجن البشر فيها حياتهم مع موتهم في متخيل مقدس لا تعلوه رياح الزمان. العراق كائن أسطوري في كل شيء، الأرض والماء والناس والتاريخ والدين. ينحني الزمان في ترع السياسة والحرب والبعد والقرب، لكنه يظل كائناً معانداً لكل الحقائق يصارعها وتصرعه، لكن له سراً يقاوم عاديات الزمن. بدايات القرن التاسع عشر كانت بوابة لزمن جديد أعاد تشكيل الدنيا. حرب عالمية انتصرت فيها بريطانيا وفرنسا، وهزمت فيها ألمانيا وحليفتها تركيا، وقامت أول دولة شيوعية بقيادة روسيا. تقسيم تركة القوى المهزومة في الحرب كان مبدأ أسسه المنتصرون في الحرب الأولى وترسخ في الحرب العالمية الثانية. المشرق العربي الذي كان تحت حكم تركيا التي خسرت الحرب، تصارع عليه المنتصران الكبيران بريطانيا وفرنسا ولم تلتزم بريطانيا بوعودها لقيادة الثورة العربية بمنح الاستقلال للعرب وتأسيس دولتهم الواحدة. كانت سوريا والعراق جوهرتي تاج طموح كل من فرنسا وبريطانيا. انهارت الإمبراطورية التركية واتفقت فرنسا قبل ذلك مع بريطانيا على تقاسم المنطقة في ما عُرف باتفاق سايكس بيكو. كانت تلك السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى حلقة تحول في العالم والمنطقة.
تآكل حلم العرب الذي طاف في مدارج ثورتهم. حملت بريطانيا فيصل بن الشريف حسين ليكون ملكاً لدولة سوريا الوليدة، لكنه أُخرج منها بالقوة. عدد من رموز العشائر العراقية رشحت نفسها لتتوج على عرش العراق، لكن الخلاف كان الإسفين الأقوى، توجه رهط من زعماء العشائر إلى الشريف حسين يطلبون منه ابنه فيصل ليكون ملكاً على الدولة العراقية. تخوف الشريف حسين وقال لهم لقد طلب أجدادكم من الحسين بن علي أن يأتي إليهم لينصروه في معركته مع معاوية، لكنهم قتلوه. في مؤتمر القاهرة الذي عقد سنة 1921 برئاسة ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية جرت الموافقة على مطلب العراقيين بتنصيب فيصل ملكاً على العراق. بريطانيا عرفت فيصل أثناء حربها مع الأتراك.
الشخصية البريطانية البارزة التي لعبت دوراً سياسياً بارزاً في العراق ميس بل كتبت رسالة إلى أبيها تقترح ملكاً سُنياً على العراق وليس شيعياً؛ لأن المرجع الديني عند الشيعة يتحكم في السلطة عكس السُنة. قَبِل العراقيون بمختلف طوائفهم بفيصل بن الحسين، فهو هاشمي من آل البيت بالنسبة للشيعة وسُني حنفي بالنسبة للسُنة.
وصل فيصل إلى العراق تحت حماية بريطانيا ومعه ثلة من الضباط العرب العراقيين والسوريين واللبنانيين، من بينهم جعفر العسكري، ونوري السعيد، وجودت الأيوبي، وجميل المدفعي وياسين الهاشمي، وغيرهم من الذين عملوا معه في صفوف قوات الثورة العربية وشرع في تأسيس مملكته برعاية بريطانية. بعد ثورة العشرين التي قادها زعماء العشائر مطالبة بالاستقلال، قام البريطانيون بتعيين عبد الرحمن النقيب رئيساً للوزراء من دون تحديد طبيعة النظام.
بعد وصول فيصل إلى بغداد كتب رسالة سرية إلى الزعامات العراقية قال فيها: لا يوجد شعب عراقي، ولكن توجد شعوب عراقية؛ لأنه لا توجد مواطنة بعد احتلال عثماني استمر أربعة قرون وتشتت فيه ولاءات الناس. عرف فيصل طبيعة تكوين البلاد التي جاء ليكون ملكاً عليها ويؤسس كياناً واحداً لها. التشتت العشائري والتناحر المذهبي والوجود البريطاني، كانت حفراً من النار وأكواماً من ترسبات تاريخية تراكمت، أضف إلى ذلك ما تعانيه البلاد من فقر وبنية تحتية لا وجود لها. حدود العراق، وخاصة منطقة الموصل، كانت محل نزاع مع تركيا. لم يخف التدخل البريطاني الثقيل في البلاد وكان الشخصية السياسية التي لم تغب عن التحولات التي عاشتها البلاد هو نوري السعيد الذي ترأس أربع عشرة حكومة وكان رجل بريطانيا من البداية إلى النهاية في العراق. خاض فيصل صراعا مختلف الدرجات مع بريطانيا ووقع معاهدة معها أعطتها شرعية التدخل في شؤون العراق وصار المندوب البريطاني كوكس الحاكم الشريك للملك في حكم البلاد، واتسمت الحياة السياسية بعدم الاستقرار والتغيير المستمر للحكومات، وكان الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي بوابة نار أخرى. نجح فيصل في ضم العراق إلى عصبة الأمم، وبذلك حصل على الاستقلال والسيادة. توفي الملك فيصل واعتلى ابنه غازي العرش وكان ضد الهيمنة البريطانية. العراق مستنقع ملتهب لا تغيب عنه ضربات الحياة والناس والصدام، وكثيراً ما كانت المأساة تضرب بكل أطرافها على مسرحه. عبد المحسن السعدون الذي لعب دوراً محورياً في دنيا السياسة العراقية مات منتحراً ولحقه الملك غازي في حادث مرور اختلفت الأقوال فيه، وبلغت المأساة الشكسبيرية ذروتها بنهاية العائلة المالكة في مذبحة قصر الرحاب سنة 1958 عندما استولى الجيش على السلطة بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وتوالت الانقلابات والمذابح بين الرفاق أنفسهم ومع من اعتبروهم أعداء. في بداية الحرب العالمية الثانية، برز تيار مؤيد للمحور وقاده الضابط رشيد عالي الكيلاني في حركة عسكرية مؤيدة للمحور وتدخل الجيش الهندي - البريطاني وقمع الحركة وأعاد احتلال العراق. وبعد وفاة الملك غازي تولى الأمير عبد الإله الوصاية على العرش، حيث لم يبلغ الوريث فيصل الثاني السن القانونية. النار السياسية والمؤامرات لم تعد تحت الأرض، لكنها أصبحت تخوض في ثنايا الحياة. البريطانيون يحكمون بمستشاريهم ويسيطرون بقوتهم العسكرية والخلاف بين الأحزاب القومية والدينية تضرب بقوة. العراق يحمل ثقل تاريخه وتضاريس نتؤات تكوينه تنز بالدم والمأساة، وكان آخرها نهاية صدام في رحاب آخر وهو المشنقة. بلاد ساهمت في تأسيس دنيا الإنسان بالدين والفلسفة والعمران والحروب، لكنها لم تغادر ساحات المعارك التي لا يقصر حبلها أو تصدأ أسلحتها. بعد قرن من التأسيس لا يزال اسم البلاد وتكوينها يتأرجح بين العراق والعراك.