سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

تقارير «أبوكالبسية»

عدد المعذبين في الأرض يتصاعد. لم تعد الحروب وحدها هي التي تدفع الناس لترك بيوتهم، ومجابهة المخاطر للوصول إلى مكان آمن، بات الجوع والفقر وشح المياه، وتصحّر الأرض، من الأسباب الرئيسية للنزوح. فرغم انخفاض حدّة الاقتتال لا يزال السوريون يحاولون بلوغ الـ«إلدورادو» الأوروبي، ومثلهم أفغانيون، وسودانيون وإيرانيون وتوانسة. ومع أن 160 دولة أغلقت حدودها بسبب الجائحة، وشلّت السياحة وتوقفت الحركة، غير أن ثلاثة ملايين شخص نجحوا في النزوح العام الماضي، بحثاً عن خلاص. ومن المحزن أن نعرف بأن واحداً من كل مائة شخص، بات لاجئاً، في هذا العالم، وأن كل فرد منا قد يكون مرشحاً، إن لم يكن هو فأولاده أو أحفاده، للهرب مستقبلاً من كارثة ما. فأشكال المخاطر تتنوع، بحجم سرعة التحولات الكبرى.
تضاعف عدد اللاجئين من عشرة أعوام إلى اليوم، صارت كل سنة أسوأ من التي سبقتها. هذا ما يخبرنا به تقرير «الاتجاهات العالمية» للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين؛ وصل عددهم إلى 82 مليوناً، نصفهم من الأطفال، وبمقدورهم تأسيس دولة بحجم ألمانيا.
تئن أوروبا تحت ضغط الهاجمين على شواطئها والمقتحمين برها وجوها. اللاجئون محنة سياسية للدول المستضيفة، وقضيتهم على رأس الحسابات الانتخابية للأحزاب الكبرى. لكن المأساة لها وجه آخر، فنصف لاجئي العالم، يعيشون بيننا، في الدول العربية، التي تعض على الجرح. يتمركزون في أكثر دولنا هشاشة، في لبنان والأردن وغيرهما، وتتقاعس الدول الغنية عن القيام بواجباتها، كما تقتضيه الاتفاقات الدولية. وهي في المقابل، وتفادياً لموجات جديدة، آتية حتماً، تشدد إجراءاتها، وتستعد لإعادة أكبر عدد منهم إلى بلادهم، ممن لا يستوفون شروط البقاء. بعضهم لم يعد يجد سبيلاً سوى اعتناق المسيحية، لتوسل اللجوء السياسي. لكن هذه الحيلة لم تعد تنطلي أيضاً. كثرة الوافدين، وغالبيتهم من المسلمين، أصبحوا سبباً لخلافات أوروبية بينية، وسلّماً يرتقيه الشعبويون لتسلق السلطة.
الصراع على أشده، بين تركيا التي تؤوي ستة ملايين نازح، واليونان بوابة أوروبا التي تتلقى اللكمات. فهي متهمة، بمخالفة القوانين، وتعريض حياة الهاربين إلى شواطئها للخطر حين تبعدهم عن مياهها الإقليمية، كما تستخدم الرصاص المطاطي. وهناك كلام عن شح في الأغذية والمياه، ومعاملة المحتجزين في المخيمات على أراضيها معاملة لا تليق ببشر.
جلّ ما يريده اللاجئ حياة كريمة، لو وجدها في بلاده، لما صارع الأمواج وتحدى حيتان البحر. وربما أوروبا تلقت درساً في سوريا، تريد أن تتفاداه في لبنان، وترى أن الكلفة أوفر، بدعم دولة صغيرة تنهار ببضعة ملايين من الدولارات، على أن ترى مئات ألوف الملهوفين، يعبرون المتوسط طلباً للأمن على الضفة الأخرى.
لكن تقريراً آخر، من أربعة آلاف صفحة، أصدرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالمناخ، شارك فيه 700 باحث، يجزم، بأن نازحي تدهور المناخ، سيكونون أكبر عدداً وأكثر شراسة من الفارين من جحيم الحروب. ويتحدث التقرير عن عشرات الملايين الذين سيضطرون لتغيير أماكن إقامتهم بحثاً عن كسرة خبز أو رشفة ماء، وللنجاة بأنفسهم وأطفالهم، من القيظ القاتل الذي يوقف القلوب، ويخطف الأرواح. ثمة عشرات ملايين آخرين سيعانون دمار مناطقهم من الغرق بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار، خاصة في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية. لن يكون أحد بمنأى عن غضب الطبيعة، التي لن تسامح من اغتالوا أشجارها، وسمموا أسماكها، ووصل تخريبهم للغلاف الجوي.
البعض يظن أن الكلام عن المستقبل البعيد، لكن هذا التقرير الرهيب لا يترك مجالاً للشك حين يحدد أن «كل طفل يولد اليوم قد يواجه تهديدات صحية عدة، قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره»، بسبب سوء إدارة الإنسان للحد من انبعاثات الكربون، وفشله في كبح الاحترار المناخي.
تقرير المناخ، يكمّل تقرير اللاجئين. أحدهما يتحدث عن حاضر مرّ، وآخر يحذّر من مستقبل أسود، سيصبح فيه أهل الأرض عرضة لما لم يجرّبه بشر من قبل.
قتل الإنسان كل شيء، أمعن في التدمير. ثمة صعوبة جمّة في الخروج من تفكير متعجرف، أعلى من شأن الإنسان، واعتبره سيداً على باقي المخلوقات. من بداية عصر النهضة الغربي، ودخول العصر الصناعي، والفكرة المسيطرة أن البشري بمعرفته العلمية قادر على التحكم في ما حوله. من ديكارت إلى فرانسيس بيكون وهوبز، سكر فلاسفة القوة البشرية، بالمعرفة، بالاكتشافات والحقائق العلمية التي توصلوا إليها، وظنوها مطلقة. لم يتمكن الأيكولوجيون، الذين حاولوا من بعدهم المصالحة بين الإنسان ومحيطه الحي، من أن يحدثونا عن التأثير الكافي. بقي أنصار البيئة وكأنهم يهمسون بصوت خافت. كنا نسمع أحزاب الخضر بداية القرن الحالي، حين بدأوا يشقون طريقهم في أوروبا، فنسخر من طروحاتهم، نظنهم مخلوقات حالمة آتية من كوكب شديد المثالية، لا يليق بواقعنا الصاخب، الهارع إلى المزيد من النزق والتشاوف.
الصورة الأبوكالبسية التي ترسمها التقارير العلمية، لا يمكن تفاديها، من دون قادة سياسيين، لهم رؤية أكثر إنسانية ورحمة بأنفسهم وشعوبهم. من كان يتصور، مثلاً، أن تفقد أميركا 600 ألف من مواطنيها، دفعة واحدة، بوباء لا تجد له دفعاً، وهي أقوى دولة في العالم، وكنا نعتقد أنها تمتلك الترياق لكل داء.
كل الحسابات القديمة تنهار أمام تصاعد وجع الإنسان، وسخط المحيطات وغضب السماء. فمن ينج من جنون طغاة الحكام، ومافيات الأسلحة، وهواة الاتجار بالأرواح، فسيجد الأعاصير والفيضانات وجفاف الأنهار له بالمرصاد، ولم يبق للبشر سوى مراجعة مسلّمات مسمومة، أوصلتهم إلى تهلكة.