بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

أفراح الكُرَة وأشباح الكُرْه

مساء الجمعة الماضي، شاهدت مباراة فريقي إنجلترا واسكوتلندا صحبة أصدقاء ثلاثة أعرفهم منذ زمن بعيد، وتعرفت خلال اللقاء على صديق لثلاثتهم بدا ممن يقال فيهم إن سماهم على وجوههم. بالمناسبة؛ الأرجح أن أغلبكم يتفق مع القول إن وجوه الأشخاص عموماً تحمل ملامحَ تنبئ عن شيء، أو أكثر، من صفات الشخصية. مثلاً؛ الحريص على الابتسام لغيره، بأدب واحترام، تراه ذا وجه يوصف بأنه «مبتسم دائماً»، حتى أن تلك الصفة تلازم الإشارة إليه، فيُقال كان أمس في المجلس «فلان البشوش». وهناك، بالمقابل، الكثير التجهّم، أي الشخص الذي تندر رؤيته يهش، أو يبش، للناس، فيقال إن فلاناً «متغشش» باستمرار، بمعنى أن مظهر الغضب ملازم له في الأحوال كافة، وأياً كانت الأجواء.
الشخص المبتسم لغيره من الناس، بأدب واحترام، سوف تجده يمارس طيّب الأخلاق في كل تصرف، إنْ في خاص الشأن، أو العام منه، بدءاً بأدب الجلوس بين الأهل والأصحاب، وعند حضور مجالس أولي الأمر، وصولاً إلى التأدب في الكلام، بل إن بينهم مَن يتكلم كَمن يهمس، حتى يُطلب منه أن يرفع الصوت قليلاً. أولئك أناس لن يُسمَع لهم زعيقٌ متعصب إزاء أي أمر، بل تجدهم أحرص على الاستماع لغيرهم بإنصات، منهم إلى مجرد الثرثرة حتى فيما ليس لهم به علم. أعرف، وسوف أرجِّح أنكم تعرفون أكثر مني، أن أعداد هذا الصنف من البشر تتقلص على نحو مخيف، وأن مجتمعات العالم، بمختلف الثقافات والعقائد، وأياً كان التراث، تشهد نوعاً من تراجع سلوكيات الأفراد، خصوصاً بين الأجيال الشابة، حتى داخل العائلات، يستهدف هدم منظومة القيم كلها، بدعوى التحرر من قديم الموروث، أو تطوير علاقات البشر بما يواكب العصر، وكلاهما أمر مهم وحيوي ومطلوب، إنما ليس عبر نسف مُدمّر لأسس أي مجتمع.
لكن، ما العلاقة بين ما سبق، وبين تنافس فريق إنجلترا مع فريق اسكوتلندا؟ ليس مِن علاقة بين الأمرين مباشرة، سواء فيما جرى على أرض الملعب، أو في التعادل الذي انتهى إليه اللعب بلا أهداف. إنما هي موجودة بما طرق سمعي من كلام قبل المباراة، وخلالها. مثلاً: في الطريق إلى منزل الصديق المُضيف، رحتُ أستمع إلى مذيع في راديو «بي بي سي» اللندني، يعلق على أجواء ما قبل انطلاق المباراة، ويتبادل الرأي، ضمن هذا السياق، مع مشاركين في برنامجه، فشد اهتمامي ما ورد من كلام بشأن التخوف من انعكاسات فوز أي الفريقين على علاقة تشهد نوعاً من اهتزاز الثقة بين الإنجليز والاسكوتلنديين، منذ استفتاء الانفصال (18-9-2014) رغم ما مُني به من فشل بعد رفضه من قبل 55.42 في المائة. بيد أن إصرار الطرف الانفصالي، بزعامة نيكولا سترغن، الوزير الأول حالياً في حكومة اسكوتلندا، على إعادة الكَرّة مجدداً في أقرب الآجال، يعزز مخاوف تجدد شحن أحاسيس غياب الثقة المتبادل بين الناس على الضفتين.
خلال متابعة المباراة، لم يغب الموضوع عن حديث الأصدقاء، إذ أبدى أحدهم التخوّف ذاته من حيث إنه في حال فاز فريق اسكوتلندا على الإنجليز، فإن ذلك سوف يُحدِث من الأثر السلبي على وحدة المملكة المتحدة، ما يعمق الاهتزاز القائم في علاقة الشعبين، خصوصاً في ضوء تأثير فوز أنصار «بريكست» في بريطانيا عموماً على تماسك نسيج المجتمع البريطاني ككل. رأي ثانٍ في الشأن نفسه، تناول الجانب المتعلق بقِدم نوازع الثأر الموجودة بين ناس وليام والاس - النجم Mel Gibson في الفيلم الشهير «قلب شجاع»، المُنتَج عام 1995 والذي عالج تلك الثارات - وبين أهل وليام شكسبير، منذ زمن الغزوات المتبادلة بينهما. موجز القول يشير إلى حقيقة أن أشباح أحاسيس الكُره بين أعراق عدة، يمكنها أن تطل فجأة، حتى في عز أفراح الجماهير بما يأتي به جمال لعبة كرة القدم من الابتهاج، خصوصاً إذا المنتشون بالانتصار كانوا في سابق الأزمان غزاة لأرض المهزومين على أرض الملعب. تخيّلوا، إذنْ، كيف سيكون الحال، لو فاز فريق فلسطيني، مع أنهم ليسوا الغزاة، على فريق إسرائيلي، وهم المُحتل أرض غيرهم، أو حصل العكس، في مستقبل الآتي من أيام، في حال قام بالفعل سلام حقيقي وعادل بين دولتي الشعبين. لكن هل يتحقق هكذا احتمال، ومتى؟ ربما بعد بضع سنين، أو عشرات القرون. ذلك علمه عند عالم الغيب وحده.