ماثيو بروكر
TT

الشباب... تحدٍ جديد أمام الصين

مع اقتراب الحزب الشيوعي الصيني من الذكرى المئوية لتأسيسه، يبدو هاجس الانهيار مسيطراً عليه. والواضح أنَّ أقدم الدول اللينينية على قيد الحياة في حالة تأهب مستمر تحسباً لأي تحديات محتملة لسلطتها. وعلى مر سنوات، أنفقت الصين على الأمن الداخلي أكثر عن إنفاقها المتنامي بسرعة على الميزانية الدفاعية. ومع هذا، يبقى السؤال أمامها: كيف يمكن مواجهة خصم يأبى النهوض؟
في الواقع، هناك ظاهرة جديدة يطلق عليها «الاستلقاء» تشكل تهديداً محتملاً للعقد الاجتماعي الذي ظل محافظاً على تماسك الصين لما يزيد على ثلاثة عقود. وتدور هذه الظاهرة، التي سيطرت على اهتمام شبكات التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الأخيرة، حول ميل متزايد من جانب شباب المناطق الحضرية لاختيار الخروج من السباق المحموم الدائر داخل المجتمع الصيني وتقلد وظائف غير طموحة ومنخفضة الأجر أو الامتناع عن العمل من الأساس، والتخلي عن الأهداف التقليدية لصالح الحد الأدنى من المال الذي يكفي المرء لسد رمقه. وتبدو هذه الحركة الاجتماعية شبيهة بحركة «الهيبيز» في الغرب في ستينات القرن الماضي، أو حديثاً ظاهرة «التقوقع» أو الهيكيكوموري في اليابان.
ومنذ الحملة القاسية التي تزامنت مع أحداث ميدان تيانانمين عام 1989 ربط الحزب الشيوعي الصيني شرعيته بالتنمية الاقتصادية. وظهرت ملامح صفقة جوهرية دارت حول الامتناع عن المطالبة بإصلاحات سياسية أو تحدي قبضة الحكومة على السلطة، وفي المقابل يوفر الحزب الحاكم دخول ومستويات معيشة متنامية باستمرار. وحقق الحزب الشيوعي بالفعل نجاحاً مذهلاً على هذا الصعيد. وحري القول بأن فقدان الحيوية الاقتصادية المميزة للبلاد حالياً ستعرض هذا العقد الاجتماعي للخطر، الأمر الذي يفسر الاهتمام الحكومي الشديد بالحفاظ على معدلات النمو المرتفعة. ومع ذلك، ثمة قطاع من السكان لم يعد يرغب في المنافع المادية التي يعرضها الحزب.
ومن هنا، جاء القلق الشديد الذي بات واضحاً عبر وسائل الإعلام الرسمية إزاء ما عرف بظاهرة «الاستلقاء». ووصف أحد المعلقين في مقال بصحيفة «نانفانغ ديلي» الحزبية، الظاهرة بأنها «ليست ظالمة فحسب، وإنما كذلك مخزية». وأضاف أن ظاهرة «الاستلقاء» أشبه بـ«حساء دجاج مسموم» لا يحمل أي قيمة تذكر.
وربما يبدو هذا الغضب مبالغاً فيه وغير متناسب مع الظاهرة، ذلك أن حركة هامشية من شباب عاديين لا يمكنها دفع المجتمع نحو الانهيار. ومع ذلك، نجد أن هذه الحركة على المستويين الآيديولوجي والروحي، تشكل تحدياً لـ«الحلم الصيني» الذي أعلنه الرئيس شي جينبينغ، والذي يتطلب إنجازه عملاً دونما كلل ولا ملل وإخلاصاً وتفانياً تجاه الأمة والعمل على تعزيز قوة ونفوذ الصين على مستوى العالم.
من ناحية أخرى، فإن ظاهرة «الاستلقاء» تبدو خياراً يتعلق بأسلوب الحياة أكثر عن كونها عملاً سياسياً صريحاً، لكنها تشكل في الوقت ذاته رفضاً لكيفية تطور الاقتصاد والمجتمع الصينيين. جدير بالذكر هنا أن التفاوتات داخل البلاد تفاقمت على نحو هائل منذ إقرار الحكومة لإصلاحات صديقة للسوق أواخر سبعينات القرن الماضي. واتسعت الفجوات في الثروة والدخول على نحو متزايد خلال العقد الماضي. ومع تباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي، ازداد التنافس على الترقي الاقتصادي حدة.
من جهتها، تقر شركات قطاع التكنولوجيا في الصين ثقافة «996»، أي العمل من 9 صباحاً حتى 9 مساءً لـ6 أيام في الأسبوع ، الأمر الذي أدى بعض الأحيان لوفاة أفراد بسبب إجهاد العمل. وفي مواجهة لعب ظالمة تسيطر عليها النخب المتمترسة، قرر شباب ظاهرة «الاستلقاء» رفض المشاركة في اللعب من الأساس. وبدلاً عن العمل بدأب وادخار المال لشراء عقار وسيارة والزواج وإنجاب أطفال، كان اختيارهم الانسحاب والرضا بحياة يتخلون فيها عن رغباتهم.
وتكمن المفارقة في أنه بعد إقرارها سياسات اقتصاد السوق من أجل تحقيق هدفها المتمثل في خلق مجتمع معتدل الثراء، وجدت الصين نفسها في مواجهة واحد من الابتلاءات التي تنفرد بها المجتمعات الرأسمالية. في الوقت ذاته، فإن اختيار الانسحاب والامتناع عن العمل يتطلب قاعدة أساسية من الوفرة والثراء غير متوافرة في بلد لا يزال يحاول الخروج من هوة الفقر. إلا أنه فيما وراء نقطة معينة، تتلاشى قدرة الأهداف المادية على إشباع الحاجات الإنسانيةـ وهذا عرض مألوف داخل الكثير من الدول المتقدمة.
إن الرأسمالية في جوهرها آلة متحركة دونما توقف، تدفعها الرغبة الأزلية في التوسع. وفي هذا الإطار، يجري استثمار أرباح الإنتاج في مزيد من الإنتاج، الأمر الذي يستلزم وجود أسواق متنامية باستمرار لاستهلاك ما يجري إنتاجه. وقد أدى ذلك بدوره إلى صعود صناعتي الإعلان والتسويق اللتين تتمثل مهمتهما في إقناع مستهلكين بأن الشعور بالإنجاز يكمن في امتلاك المزيد والأفضل. وكل هذا يجعل من الرأسمالية مولداً للسلع والخدمات. كما أنها تميل في الوقت ذاته لخلق مشاعر الاغتراب والقلق.
ويرجع ذلك إلى أن الإجابة للحاجة الإنسانية للشعور بالسعادة لا تكمن في إشباع الرغبات المادية (الأمر الذي أدركه البوذيون منذ آلاف السنين).
داخل السياق الأميركي، يمكن معاينة هذا الأمر في روايات مثل «الطريق الثوري» الكلاسيكية التي نشرها ريتشارد ييتس عام 1961 والتي عبرت عن الخواء في قلب «الحلم الأميركي» في خضم موجة الثراء الحضري التي سادت سنوات ما بعد الحرب.
من جانبه، يرى عالم النفس الألماني إريك فروم والناقد للرأسمالية أن المجتمع الذي يصبح فيه «الاستهلاك هدفاً في حد ذاته»، مجتمع مريض، وتحسر على كيف حولت الرأسمالية كل شيء إلى سلعة.
من ناحية أخرى، فإن النظام السياسي الستاليني عبارة عن آلة في حركة دائمة لكن من نوع آخر، ويدفعها في حركتها الشعور بالبارانويا أو جنون الاضطهاد. ويقوم مثل هذا النظام على فكرة أن أرض الوطن يحيطها الأعداء من كل جانب، لذا يجب على أفراد الشعب مضاعفة جهوده والتوحد خلف القائد المنقذ للتصدي للتهديدات الوجودية التي يجابهونها.
وبعد أن تخلى عن قيم المساواة والتضامن الشيوعية، لجأ شي إلى الوطنية وفكرة العالم المعادي من أجل ترسيخ فكرة ضرورة استمرار الحزب الشيوعي في قيادة البلاد.
أما الأمر المثير في ظاهرة «الاستلقاء» فهي أنها تكشف مدى تشابه التجربة الصينية مع تجارب دول أخرى عندما تقف بمواجهة الظروف ذاتها، وهي ظاهرة تكشف أن السيطرة السياسة لها حدود لا يمكنها تجاوزها. ورغم كل المحاولات الحثيثة التي يبذلها شي لتعزيز روح التفرد الصينية وفرض نسق واحد شيوعي على البلد بأكمله، تبقى إمكانية أن يتطور المجتمع على نحو غير متوقع.