جيمس ستافريديس
- أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس < بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

«الناتو» والصين وأشياء أخرى

قد يكون من الغريب أن أهم قمة لـ«الناتو» أشارك فيها خلال فترة عملي بالحلف، لم تكن في أوروبا، وإنما في شيكاغو، حيث استضافها الرئيس باراك أوباما في مايو (أيار) 2012.
خلال انعقاد القمة، جرى إغلاق قلب المدينة، وهيمنت أصوات صفارات الإنذار التي تشير إلى مرور موكب على منطقة ويندي سيتي. وحول طاولة المحادثات، اجتمع قادة الدول الأعضاء الـ28 آنذاك في الحلف. أما مهمتي باعتبارها القائد الأعلى لقوات التحالف، فكانت إطلاع قيادات «الناتو» على نحو موجز بالعمليات التي يضطلع بها الحلف بمختلف أرجاء العالم.
في ذلك الوقت، كانت بعض القضايا على الحال ذاته الذي شهدناها عليه خلال قمة الحلف الأسبوع الماضي في بروكسل: شعور بعدم الارتياح إزاء روسيا الصاعدة والتي كانت قد غزت جورجيا قبل قمة «الناتو» التي حضرتها بعامين، وأفغانستان التي كان يتمركز بها 150.000 جندي في إطار مهمة تدريب ومكافحة للإرهاب، وتوترات في البلقان، حيث أبقى الحلف على 15.000 جندي من أجل الحفاظ على السلام بالمنطقة وأعمال القرصنة التي تجري خارج سواحل شرق أفريقيا.
وخلال حديثي أمام قادة الحلف، استعرضت الخيارات المتاحة للتعامل مع كل من هذه التحديات، وتلقيت توجيهاتهم. بجانب أوباما، بدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قوية على نحو خاص في مواقفها.
إلا أنه خلال العقد الفاصل بين تلك القمة وقمة «الناتو» الأخيرة، تبدل الكثير، بما في ذلك جميع القادة فيما عدا ميركل. والملاحظ أن هناك ثلاث قضايا محورية جديدة من المحتمل أن تحدد مسار «الناتو» خلال القرن الحالي. والآن: ما الذي تخبرنا به قمة بروكسل - أول قمة يشارك فيها بايدن بعد توليه رئاسة الولايات المتحدة - حول الحلف؟
الحقيقة، أن المناخ العام بدا مرحاً، فقد سار بايدن بخفته المعتادة نحو المنصة قبل أن يحيي الأمين العام، ينس ستولتنبرغ، بضربة خفيفة من المرفق. وكان هناك الكثير من التفاعل الدافئ داخل النطاقات العامة، في الوقت الذي تؤكد جميع التقارير أن التفاعلات خلف الأبواب المغلقة كانت ودية - ما يعكس صورة بعيدة كل البعد عن الحالة الرديئة التي عانى منها الحلف على يد الرئيس السابق دونالد ترمب.
وعلى خلفية شعار «أميركا تعود»، طرح بايدن بنجاح (ولاقى ترحيباً حاراً في ذلك) ثلاث قضايا هيمنت على أجندة القمة: الصين والتغييرات المناخية والهجمات السيبرانية.
أثناء قمة 2012، لم تكن الصين على الرادار من الأساس. ورأى غالبية المراقبين المعنيين بالسياسات الخارجية، أن دور «الناتو» محصور داخل المنطقة الجغرافية التقليدية له، مع مشاركته من حين لآخر في عمليات «خارج المنطقة»، مثل أفغانستان والتصدي للقرصنة، واللذين جرى اعتبارهما تهديداً مباشراً للحلف.
في هذه القمة، ألقت الصين بظلالها بدرجة كبيرة. ونص البيان الختامي للقمة بوضوح على أن «النفوذ المتنامي للصين وسياساتها الدولية يمكن أن تشكل تحديات يتعين علينا التعامل معها... وسنتعامل مع الصين من منطلق الدفاع عن المصالح الأمنية للحلف».
وجاء هذا الموقف في الجزء الأكبر منه بإيعاز من الولايات المتحدة، والتي تسعى نحو شراكة عبر أطلسية قوية لتحقيق توازن في مواجهة بكين. واليوم، بدأت أوروبا تستفيق للأخطار التي يتطوي عليها المساعي الصينية القوية لفرض سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، وجهودها لفرض هيمنتها على الدول المجاورة، بما في ذلك تايوان، وسلوكها العدواني إزاء الهند «التي من المحتمل أن تشكل شريكاً حيوياً للغرب داخل منطقة المحيط الهندي - المحيط الهادي»، والتبادل التجاري غير العادل وممارسات فرض التعريفات وسرقة الملكية الفكرية ودعم كوريا الشمالية والعمليات السيبرانية الهجومية.
علاوة على ذلك، فإن العلاقات الدبلوماسية المتنامية بين الصين وروسيا والتنسيق بين المؤسستين العسكريتين وسياساتهما الدولية عبر مناطق مختلفة من شمال المحيط الهادي مروراً بالشرق الأوسط، وصولاً إلى شرق حوض البحر المتوسط، تثير القلق هي الأخرى.
ومن المتوقع أن تضغط الولايات المتحدة على حلفائها في «الناتو» على مدار الأشهر المقبلة، من أجل نشر قوات بحرية إلى المحيط الهادي لتنفيذ عمليات بجانب مجموعات حاملات هجومية أميركية في بحر الصين الجنوبي.
من جهتهم، بدأ البريطانيون بالفعل في إرسال حاملة حديثة زنة 65.000 طن، «الملكة إليزابيث»، إلى المنطقة. كما أظهر الفرنسيون والألمان التزامهم تجاه هذا الأمر، وثمة مناقشات جادة جارية حول تشكيل قوة مهام بحرية تتبع «الناتو» داخل المحيط الهادي، على غرار القوة المتمركزة بالفعل في البحر المتوسط.
علاوة على ذلك، كان الأمن السيبراني من القضايا المحورية في القمة. واللافت أنه بعد التردد الذي أظهره الحلف إزاء إقرار مصطلح «هجوم» على مدار الجزء الأكبر من العقد الماضي، أعلن «الناتو» الآن بوضوح أن أي هجوم سيبري سيجري التعامل معه تبعاً للمادة الخامسة من معاهدة الحلف؛ ما يعني أنه سيستثير استجابة من الدول الأعضاء الـ30 جميعها.
من ناحيته، بذل بايدن جهوداً كبيرة للتأكيد على مدى الأهمية التي توليها الولايات المتحدة للمادة الخامسة - في تناقض آخر مع إدارة ترمب ـ ووصف المادة بأنها «واجب مقدس» يجري تمديده الآن إلى الفضاء السيبراني.
وأخيراً، كانت هناك قضية أخرى لم تكن حاضرة في قمة شيكاغو، ذلك أنه من المقرر أن يعزز «الناتو» من أهمية البعد الأمني لمسألة ارتفاع درجات حرارة الأرض، في إطار اجندته، وسيستجيب لهذه المسألة عبر أرجاء الحلف وعلى نحو فردي. وستعمل كل دولة على الحد من الانبعاثات الكربونية لديها وتقليص الانبعاثات الكربونية لقواتها العسكرية، وتنسيق سياساتها البيئية مع الدول الأخرى الأعضاء.
وبالنظر إلى أن الدول الأعضاء في «الناتو» تنفق مجتمعة ما يتجاوز تريليون دولار على المؤسسات الدفاعية لديهم، ويتولون تشغيل 28.000 طائرة عسكرية و800 سفينة حربية رئيسية، ولديهم سبعة ملايين جندي (عامل واحتياط) تحت قيادتهم، فإن هذا سيكون أمراً عظيماً.
كما تناولت القمة بعض القضايا القائمة منذ فترة، مع تركز كثير من المناقشات حول أعمال العدوان الروسية، خاصة أوكرانيا وجورجيا، وهما دولتان شريكتان لـ«الناتو»، بجانب قضية أفغانستان، حيث يتطلب الانسحاب من مهمة عسكرية استمرت 20 عاماً مزيداً من الدعم المالي والدبلوماسي، وكذلك الدفاعات الصاروخية الفاعلة على جانبي الأطلسي.
ومع ذلك، يمكن إيجاز جوهر قمة 2021 في: الصين والأمن السيبراني والمناخ، ما يؤكد لنا أن الزمن يتبدل، و«الناتو» يبدل نفسه معه.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»