توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

بقية من رواية قديمة

هذا ما تبقى في ذاكرتي من رواية اشتريتها قبل أربعة عقود، من رجل عجوز أقام بسطة على قارعة الطريق، يبيع فيها كتباً ودفاتر ومجلات قديمة، أسعارها تتراوح بين 10 فلوس و100 فلس. وبينها هذه الرواية التي نزع غلافها وعدد من صفحاتها الأولى، فلم أعرف اسمها ولا اسم مؤلفها، وإنَّما جذبني سعرها الزهيد قياساً بضخامة حجمها، فقد دفعت يومها نصف درهم، أي 25 فلساً، عداً ونقداً، وهي تعادل ربع ريال سعودي، يوم كان الدينار العراقي ديناراً.
تحكي الرواية قصة سفينة غرقت ونجا نحو ألف من ركابها، ولاذوا بجزيرة مهجورة وسط المحيط. وقد خصص الروائي نحو 200 صفحة لشرح علاقة الناجين ببعضهم بعد وصولهم الجزيرة، وكيف انقسموا إلى أغلبية تريد أن تنظم حياتها معاً، وأقلية يريد كل فرد فيها النجاة بنفسه. ثم تحولت الأكثرية إلى قرية منظمة تدير حياة طبيعية، تزرع وتبني ويجتمع أهلها في المقهى والكنيسة، ويتزاوجون ويحتفلون في المناسبات، بينما بقي أعضاء الأقلية متشككين، غير واثقين بما يجري، خائفين من أن يتعرضوا للاستغلال، فاختاروا العيش منفردين في نقطة قصية، يراقبون الساحل أملاً في سفينة تنقذهم يوماً ما.
لقد نسيت الآن معظم تلك الرواية عدا قصة نزولهم الجزيرة، وإعادة تنظيم المجتمع الجديد. وللحق فإني لم أدرك مغزى تفاصيلها الكثيرة المملة، إلا يوم بدأت دراسة العلوم السياسية، ولا سيما حين وصلت إلى الجدالات التي أعقبت نشر كتاب «لفياثان» أو الغول لتوماس هوبز، المفكر الإنجليزي، الذي حاول فيه شرح سيناريو تحول الحشد العادي إلى مجتمع فيه سلطة سياسية وقانون.
إني أميل لاعتقاد أن المحرك الرئيس لتلك المجادلات، هو تحفظ هوبز في الإقرار بخيرية الإنسان وميله الفطري للتعاون والتكافل، على النحو الذي فعله غالبية الناجين من ركاب السفينة. قدم هوبز مفهوماً مزدوجاً، يؤكد في جانب منه على أن الإنسان أقرب للشر منه للخير، فلو اجتمع عدد كبير من الناس لكانوا أميل للتنازع، الأمر الذي يؤدي لما سماه «حرب الجميع على الجميع». بينما يؤكد في الجانب الثاني على أن الإنسان عقلاني، برغم فساد فطرته. عقلاني بمعنى أنه يجيد حساب العواقب وما يترتب على قراراته وأفعاله. وهذه العقلانية أوصلت ذلك الحشد المتنازع، إلى أن مصلحة كل منهم تقتضي إقامة سلطة فوقهم، تلزم الجميع بالسلام والتسالم، وهذا أساس فكرة الدولة.
تعتمد الفلسفة السياسية المعاصرة نظرية معاكسة، أساسها أن البشر بطبعهم ميالون للخير، فلو اجتمعوا لتفاهموا وتعاونوا ونظموا حياتهم بما يفيد غالبيتهم. لكن يبدو أن المجتمعات الشرقية ما زالت تميل لرؤية هوبز المتحفظة. إني أفهم هذا من رغبة الناس في العقوبات المشددة كوسيلة للحكم، وإنكار غالبيتهم للتفاوض والمساومة والحلول الوسط للمشكلات السياسية، بل وارتيابهم في الذين يستعملون هذا الأسلوب أو يدعون إليه. هذا يعني أنهم يؤمنون بأن خوف العقاب هو الذي يدفع الناس للتسالم وليس كونهم خيرين بالفطرة.
سوف أشرح في وقت آخر علاقة هذا الميل بفكرة العدالة، ومدى رسوخها في ثقافتنا. لكني أردت اختتام هذه المقالة بدعوة القارئ العزيز لمساءلة نفسه: هل يرى البشر (وهو واحد منهم) أقرب للشر والتنازع، بما يستوجب قسرهم على التسالم، أم يراهم مجبولين على الخير والتكافل وتنظيم حياتهم معاً؟