د. ياسر عبد العزيز
TT

السيد الجمهور القائد

سعى كثير من الباحثين والمؤرخين إلى تقصي انبلاج عهد وسائل الإعلام الجماهيرية، ورغم وجود قدر من التضارب في تعيين نقطة بداية هذا العهد، فإن الاتفاق بدا واضحاً على أن ذلك حدث في القرن السابع عشر الميلادي، حين ظهرت الصحف المطبوعة في أوروبا وانتظمت في الصدور.
ومع سطوع عهد الإعلام الجماهيري وتأسيس مقوّماته كصناعة ذات مقومات استدامة وتأثير وتطور، نشأ مفهوم جمهور وسائل الإعلام، وهو المفهوم الذي ظل مغرياً لآلاف الدراسات والمُسوح، التي استهدفت سبر أبعاده ورصد أطواره وتعيين سماته.
لا يمكن بالطبع، في هذه المساحة المحدودة استعراض أهم ركائز المقاربات البحثية التي استهدفت مفهوم جمهور وسائل الإعلام. لكن يمكن على الأقل أن نشير في هذا الصدد إلى أن الجمهور، كمفهوم وعنصر من عناصر عملية الاتصال والإعلام، ظل يتمتع بأهمية مركزية وأولوية متقدمة في تلك المقاربات، لكونه هدف الاتصال الأول، ووجهة التأثير المرجوة، ومقياس النجاح والنفاذ، ومؤشر العوائد والأرباح، التي ظلت تلعب دوراً مؤثراً في رفد صناعة الإعلام بمقومات الاستمرار والازدهار.
واتصالاً بهذا الاهتمام الذي حظي به مفهوم الجمهور، راح الباحثون والمُنظرون وأرباب الصناعة يخصّصون جهداً وافراً لدراسة احتياجات الجمهور وأساليب تعرضه للمادة الإعلامية وأحوال التلقّي التي تسود في أوساطه، لمحاولة تلبية اهتماماته والحصول على رضاه عن المادة المقدمة، باعتباره هدف التنافس الأهم بين صُناع الإعلام ومؤسساته.
ونشأت في هذا الصدد مقولات مؤسسة؛ بعضها يعكس رصانة علمية عن ضرورة مراعاة أولويات الجمهور، التي هي مزيج من رغباته واحتياجاته حين توضع في حالة توازن مع رسالة المؤسسة الإعلامية، وتخصّصها، ونمط أدائها، ونطاق خدمتها المفترض، أما بعضها الآخر، فقد اتخذ سمتاً براغماتياً، جرى التعبير عنه في عبارة «الجمهور عايز كده»، وهو السمت الذي انعكس في أداء إعلامي وُصف بأنه «شعبي» أو «شعبوي» أو «صحافة صفراء».
وفي كل الأحوال، فإن دور الجمهور في صياغة أداء المنظومات الإعلامية المختلفة ظل يتمتع بتلك المركزية والأهمية، لكن ذلك لم ينل أبداً من قدرة مؤسسات الإعلام الجماهيري على الاحتفاظ بالسيطرة على خطها التحريري، واتقاء خطوط حمراء متنوعة، وتلبية استحقاقات تراها وجيهة، والإبقاء على مسافة واضحة - تتسع حيناً وتضيق حيناً - بين ما تنتجه تلك المؤسسات وبين ما تريد القطاعات الغالبة من الجمهور أن تحصل عليه.
ظلت هذه المعادلة تحكم أداء وسائل الإعلام الجماهيرية، وظل الجمهور متقبلاً لها. وفي سياق المنافسة المفتوحة والتعددية الإعلامية، سمحت له بالتنقل بين المتنافسين لتلبية حاجاته ورغباته وأولوياته، لكن الأمر لم يحل أبداً دون قدرة بعض تلك الوسائل على تسييد معايير واحترام قواعد في إنتاج المادة الإعلامية وعرضها، وهي القدرة التي ظلت أيضاً مناط تفرد بعض تلك المؤسسات وسبباً لبقائها ونجاحها.
المعادلة هذه تتغير الآن، بل هي في طريقها للاندثار. فمع انبلاج عهد «السوشيال ميديا» وسيادة مفهوم «الديجيتال» وانصراف القدر الأكبر من طاقة التعرض إلى الوافد الجديد، تغيّر مفهوم الجمهور إلى مفهوم «المستخدم»، ثم «المتفاعل»، فـ«صانع المحتوى»، وصولاً إلى اجتراحه مكانة فريدة لا تبقيه كطرف مهم وأصيل في المعادلة فقط، لكنها تضعه في موضع القيادة.
بات الجمهور قائداً مهيمناً في العملية الإعلامية وفق المعادلة الراهنة. وبسبب تعاظم دوره وتأثيره، راحت المنظومة الإعلامية تنتقل من مفهوم «خدمته» إلى مفهوم «توسله». وبدلاً من تقصي أولوياته لتلبيتها وفق رسالة المؤسسة ومعاييرها المعتمدة، برزت أساليب لتحري رغباته والإمعان في تكريسها كهدف يجبّ ما عداه من أهداف.
ومن ذلك أن أساليب قياس اهتمام الجمهور بالمادة الإعلامية، وطرق تعرضه لها، ومدد بقائه في مطالعتها، وأسباب الحفاظ على ولائه، وعناوين «ترينداته»، ومسارات «هاشتاغاته»، وأساليب بحثه في الشبكة العنكبوتية، كلها باتت جزءاً من مقدرات الوفاء بمتطلبات الإنتاج الإعلامي والذيوع والانتشار وتحقيق الاستدامة والأرباح.
وأضحت عمليات التدريب التي تستهدف الصحافيين الناشطين على الشبكات المهيمنة تتضمّن بالضرورة مساقات عن مقومات الإنتاج التي تلبي الاشتراطات الجديدة؛ ومنها على سبيل المثال؛ العناوين الغامضة والمبتورة، والصور الحادة، والبدايات الجاذبة على حساب الدقة، والسياقات المبتورة التي تتفادى إطالة التعرض، لخدمة رغبات جمهور تُظهر القياسات أنه ملول، ومتخم بالعروض والوسائط، وعازف عن المعالجة العميقة.
ومع تكرّس هذه المقومات الجديدة ستحوّل «السوشيال ميديا» الجمهور إلى «رئيس تحرير»، والصحافي إلى مجرّد «مُسوِّق»، يخصّص الجزء الأكبر من جهده لتتبع رغبات الجمهور والامتثال فقط لها، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة.