د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الكم والكيف والكمالية

حيرت الناس معضلة المفاضلة بين «الكم» و«الكيف» ومدى «كمالية» أعمالهم، وهو ما حدث مع الأستاذ بجامعة فلوريدا جيري أولسمان الذي حاول فهم العلاقة المحيرة بين «الكم» و«الكيف» ومدى إنتاجيتنا.
فبدأ بتقسيم قسم التصوير الفوتوغرافي إلى مجموعتين؛ الأولى كانت على الجانب الأيسر من القاعة، وقيل لهم بأنهم سيكونون مجموعة «الكم» أي سيحصي الباحث «كمية» الصور المقدمة من كل مشارك. فمن يسلم مائة صورة يحصل على امتياز، وتسعين صورة سحصل على جيد جداً، وثمانين جيد... وهكذا. وعلى الجانب الآخر قيل للمجموعة الثانية، على يمين القاعة، بأنهم سيقيّمون على أساس جودة صورهم (أي مجموعة «الكيف»). وكان عليهم تقديم صورة واحدة فقط في الفصل الدراسي كله للحصول على تقدير امتياز. غير أنه اشترط أن تكون تلك الصورة «شبه مثالية».
وبعد نهاية الفصل الدراسي تبين أن أفضل الصور التي قدمت على الإطلاق كانت تلك التي قدمتها مجموعة «الكم». وهذا مؤشر على أن المرء حينما يجد نفسه أمام هاجس أن يصبح الأفضل على الإطلاق فإنه قد يخفق في مهمته حتى ولو كان المطلوب منه أمراً يسيراً. فهاجس البحث عن الكمالية يثير قلق الناس. ولو أضفنا إلى ذلك عامل التقييم في بيئات العمل أو خشية أنظار المجتمع، فإن المهمة قد يكتب لها الفشل. هذه الدراسة التي ذكرها الكاتب جيمس كلير في كتابه «أوتوميك هابيت» نستشف منها أن الناس لديهم خيار تجنب المثالية الزائفة أو المبالغ فيها لأن الأسوأ قد يكون عدم الإنتاجية على الإطلاق. هذا قد ينطبق على بعض الأعمال مثل الروتينية والإدارية وما شابهها. أما فيما يتعلق بصحة الناس أو تعريض حياتهم للخطر فذلك أمر مختلف جداً، إذ يتطلب أن نولي للكيفية أو الجودة الاهتمام الأكبر. وقد رأينا كيف طالت معاناة الناس نتيجة انتظار بلدان العالم للقاح ذي جودة عالية ومعتمدة يوقف شبح جائحة فيروس «كورونا» الذي خيم على أرجاء الكرة الأرضية ليشل حركتها وتجارتها وطائراتها ومدارسها.
مشكلتنا حينما نصاب بداء «المثالية الزائدة» Perfectionazim نؤجل لحظات البدء بحجة الاستعداد أو التفكير وننسى أن العمل البشري مهما كان متقناً، فإن نقصاً ما سيشوبه لا محالة، لأن الكمال لله وحده. وهذا لا يعني ألا نجعل الحديث الشريف الخالد «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إذا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ»، نصب أعيننا. غير أن الحرص «المبالغ فيه» بالإتقان يؤجل معه النتيجة. وما أكثر البلدان والأفراد الذين انتظروا تلك «الكمالية المطلقة» ولم يظفروا بشيء.