د. ياسر عبد العزيز
TT

اتفاق يخدم العدالة

في مصر مثل قديم يقول «الخواجة لمّا يُفلس، يُقلب في دفاتره القديمة»، وقد كان يُراد به تجسيد حالة هذا البقّال اليوناني الذي يبيع بضاعته لزبائنه بالأجل في أيام الرخاء وازدهار الأعمال، لكن عندما تضيق به السبل، وتتعثر أموره المالية، فإنه يهرع على الفور إلى دفتر المبيعات، ليحصر ديون زبائنه، ثم يبدأ في مطالبتهم بالسداد.
لا ينطبق هذا المثل فقط على مصر في عهدها المنفتح ذي النزعة «الكوزمبوليتانية»، حين كان المستثمرون القبارصة واليونانيون والإيطاليون يأتون إلى مدنها العامرة لتأسيس مشروعاتهم التجارية، بل ينطبق أيضاً على دول العالم الأخرى، كما أنه لا يقتصر على التجار فقط، لكنه يمتد أيضاً ليجسد حال عديد الحكومات.
شيء مثل هذا حدث على مدى الشهور القاتمة التي هيمن فيها «كوفيد - 19» على المشهد العالمي. إذ راح يُعظم خسائر الاقتصادات الوطنية، ويضغط على الموازنات العامة، ويرهق الخزائن السيادية، ويُقلص الإيرادات، ويضع وزراء المال ومسؤولي الجباية في مآزق صعبة؛ إذ تزداد كلفة المواجهة الصحية للجائحة، وتتضاعف نفقات الرعاية الاجتماعية في ظل الركود، فيما تتراجع عائدات الضرائب. وبينما تخسر القطاعات الاقتصادية العالمية المختلفة باطراد تحت وطأة كابوس الجائحة وتداعياتها الموجعة، فإن قطاعاً اقتصادياً يظل منفرداً بتحقيق المكاسب وتسجيل الاختراقات، وتزدهر أعماله فيما تضمر أعمال الآخرين، وتتنوع نشاطاته فيما يُحد الآخرون من أنشطتهم.
لم يكن هذا القطاع المنفرد بالازدهار في الشهور العجاف سوى قطاع شركات التكنولوجيا العملاقة، التي يمكن تحديد أهمها في الأسماء الخمسة اللامعة الكبرى: «أمازون»، و«فيسبوك»، و«ألفا بيت»، و«آبل»، و«مايكروسوفت»، وهي شركات استفادت من التأثيرات الصحية والاجتماعية والاقتصادية للجائحة، وترجمتها إلى مزيد من التمركز والتوسع والعوائد.
وفي عام 2020 - الذي سجل خسائر وكوارث اقتصادية لمؤسسات عملاقة في معظم قطاعات الأعمال، ولدول كبيرة في قارات العالم المختلفة - استطاعت تلك الشركات التكنولوجية العملاقة الخمس تحقيق إيرادات فاقت التريليون دولار أميركي، كما زادت أرباحها مجتمعةً بنسبة 24 في المائة. وعلى سبيل المثال؛ فإن أرباح «فيسبوك» وحده بلغت نحو 20 مليار دولار بعدما زادت إيراداته إلى 86 ملياراً، بينما سجل محرك البحث «غوغل» ربحاً يفوق 34 مليار دولار، بعدما بلغت إيراداته نحو 150 ملياراً.
منذ بدأت ميزانيات الدول الغربية الكبرى تتأثر بضغوط الجائحة، راح وزراء المالية والمشرعون «يقلبون في دفاترهم»، في محاولة لإيجاد موارد يمكن أن تقلل تلك الضغوط. وفي تلك الأثناء بالذات كانت الأنباء عن الأرباح الضخمة لشركات التكنولوجيا العملاقة - وفي القلب منها تلك الشركات المسؤولة عن إدارة وتشغيل مواقع «التواصل الاجتماعي» - تخطف الأبصار. وقد حدث ذلك بموازاة انتقادات عالمية وجيهة لأساليب عمل تلك الشركات، ومن تلك الانتقادات أنها «لا تنطوي على ارتكاز مادي، ولا تلتزم نطاقاً جغرافياً، ولا توظف أصولاً ضخمة، ولا تنهض بمسؤولية اجتماعية، ولا تحترم حقوق الملكية الفكرية، ولا تبذل جهوداً كافية لصون السلم العالمي»، بينما يتبادل ملاكها مواقع الصدارة في قوائم الثراء العالمية.
ولولا معارضة واضحة من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، لمقاربة ضريبية لتلك الشركات، لكانت المحاولات التي بدأت على استحياء في العام الماضي نجحت في فرض إطار ضريبي مناسب عليها. لكن تأييد الإدارة الأميركية الحالية، وزيادة وطأة الضغوط المالية على الدول الكبرى، واستمرار الازدهار القياسي لأعمال تلك الشركات، كلها عوامل ساعدت على الوصول إلى اتفاق «تاريخي»، أول أمس السبت، بين وزراء مالية مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى (بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا، وإيطاليا، واليابان، والولايات المتحدة)، وهو اتفاق يقضي بفرض ضريبة بحد أدنى 15 في المائة على الشركات التكنولوجية متعددة الجنسية، على أساس كل بلد على حدة.
سيبقى أن تطوّر «مجموعة السبع» تنسيقها مع مجموعة الدول العشرين، وأن تنقل عناصر هذا الاتفاق إلى منظومة «دول التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي»، التي تضم في عضويتها نحو 137 دولة، لتدفع تلك الشركات قدراً من أرباحها في صورة ضرائب يمكن أن تصل إلى نحو 100 مليار دولار سنوياً، حسب الخبراء المتخصصين.
ورغم أن هذا الاتفاق الذي توصلت إليه دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى جاء متأخراً، فإن من حق الدول التي أبرمته أن تشعر بالرضا، لأنها لم تنجح فقط في إدراك صيغة تعزز مداخيلها في أوقات صعبة، لكنها نجحت أيضاً في الوصول إلى اتفاق يخدم العدالة.