د. ياسر عبد العزيز
TT

ما بين «كوفيد ـ 19» و«حرب غزة»

سؤالان مهمان يتعلقان بالإعلام ودوره في أثناء الأزمات طُرحا بقوة في الفترة الأخيرة: أولهما يتعلق بالموقف من «كوفيد - 19» والطريقة المثلى للتعاطي معه. وثانيهما يختص بالأوضاع المتفجرة في غزة حالياً وكيف نفهمها وندرك تطوراتها على نحو سليم.
والشاهد أن الإعلام يلعب دوراً خطيراً وجوهرياً في الحالتين، وربما، في أحيان كثيرة، يؤثر إلى حد كبير في إدراك الجمهور للواقع، ويأخذه إلى مواقف وقرارات محددة، بما يعزز الضغوط على المؤسسات والقادة، ويفرز واقعاً موازياً، يعيد تشكيل المواقف والأحداث.
لكن ما الإعلام الذي نحن بصدده في هاتين الأزمتين؟
إنه إعلام مختلف عن ذلك الذي هيمن وتفاعل مع الأحداث الكبرى التي وقعت خلال القرن الأخير من الألفية المنصرمة؛ ومناط اختلافه الرئيسي يكمن في عاملين أساسيين: أولهما التطور التكنولوجي الهائل الذي تزامن مع تطور الأساليب المهنية في وسائل الإعلام الجماهيرية، وجعلها أكثر قدرة على تغطية الأحداث الكبرى والأزمات الحادة. وثانيهما يتجسد في انبلاج عالم وسائل «التواصل الاجتماعي»، وزيادة انتشارها وتأثيرها، وتمركزها كأحد مكونات صناعة الوعي العمومي والتأثير فيه.
هذا الفضاء الإعلامي إذن لم يُعد مساحة خالصة لتأثير المؤسسات الإعلامية المملوكة للدول ولأصحاب المصالح المحددة هوياتهم، والمعروف - إلى حد كبير - نطاق تغطيتها، ومصادر تمويلها، ومرتكزاتها السياسية التي تنعكس في سياساتها التحريرية إزاء الأزمات والأطراف المنخرطة فيها.
وهو أيضاً ليس مساحة خالصة لوسائل «التواصل الاجتماعي»، التي تقوم عليها طبقات من «المؤثرين الجدد»، أو يستخدمها ناشطون من أصحاب المصالح والمواقف، أو ينخرط في تفاعلاتها مواطنون عاديون، يرون فيها مجالاً سانحاً للتعبير عن الرأي، والتفاعل، والتأييد والرفض، والانخراط في الحملات عبر تعزيز «الهاشتاغات»، والإعجاب بالمنشورات، تحت سلطة شركات تكنولوجيا عملاقة تتدخل فقط حين لا تجد مفراً من الضغوط التي تستهدفها لـ«ضبط المحتوى» المُتداول عبر منصاتها.
تلك إذن مساحة مُتنازع عليها بين إطارين إعلاميين كبيرين، أو هي ميدان للمنازلة بينهما، لا يحول اعتمادهما الجزئي المتبادل وتعاونهما المرحلي المشترك دون استدامة التنافس بينهما على عقل الجمهور ووعيه ودون احتفاظ كليهما بسماته الفريدة.
في أزمة «كوفيد - 19»، ظهر تقرير مهم قبل نحو شهرين، نشرته كبرى وسائل الإعلام العالمية، لكنه لم يلقَ رواجاً مناسباً على منصات «السوشيال ميديا»، ولم يحظَ عموماً بالاهتمام الواجب. إذ قال «مركز مكافحة الكراهية الرقمية» (سي سي دي إتش)، إنه درس أكثر من 81 ألف منشور على «السوشيال ميديا»، في الفترة من أول فبراير (شباط) إلى 16 مارس (آذار) الماضيين، فوجد أن ثلثي المحتوى المعارض للقاحات ضد «كوفيد - 19» يأتي فقط من 12 شخصاً من المؤثرين على تلك الوسائط، وقد أسماهم «دستة المعلومات المضللة».
والمعنى واضح؛ إذ يفيد التقرير ببساطة بأن هؤلاء الأشخاص، الذين يمثلون نجوماً على مواقع «التواصل الاجتماعي»، ويدير معظمهم أنشطة اقتصادية أو سياسية تتكسب من الحالة الرافضة للتلقيح والمُشككة في وجود «كوفيد - 19»، كان بوسعهم أن يستخدموا متابعيهم، الذين يبلغ عددهم نحو 60 مليوناً، في صناعة وعي زائف بخصوص اللقاح، أدى إلى تأثير سلبي في خطط التطعيم وصيانة السلامة العامة.
الأمر ذاته أيضاً يتكرر بوضوح في متابعة وسائل «التواصل الاجتماعي» لأزمة غزة الحالية. ورغم عدم صدور أبحاث ودراسات علمية تُقيّم تلك المتابعة بصورة إجمالية حتى اللحظة، فإن كثرة من التقارير التي نشرتها وسائل إعلام عالمية مرموقة رصدت بوضوح حالات تضليل وتلاعب وفبركة كان لها أثر كبير في تشكيل صورة الأحداث وصياغة مواقف المتابعين.
يقودنا هذا إلى تذكّر ما كان المُنظر الثقافي الفرنسي جان بودريار أكده قبل سنوات بخصوص «الواقع الفائق» الذي نعيشه راهناً بفعل سيل الإفادات المنهمر من دون درجة مناسبة من التحقق والضبط؛ وهو واقع «تكثر فيه المعلومات... وتتضاءل الحقائق».
فما الحل إذن؟
لا تُسلم نفسك بالكامل إلى أحد الإطارين، بل وزّع تعرضك على وسائل الإعلام الجماهيرية ووسائل «التواصل الاجتماعي».
ولا تقصر تعرّضك على وسيلة إعلام جماهيرية واحدة، أو مجموعة وسائل تتبع اتجاهاً محدداً، بل احصل على المعلومات والتحليلات من عدد مناسب من تلك الوسائل... واحرص على أن تكون تلك الوسائل متنوعة وتعبر عن مصالح مختلفة. أيضاً، لا تتجاهل «السوشيال ميديا» بالطبع، لكن لا تستسلم تماماً لما يأتي عبرها، بل اعتبر ما يرد إليك منها إفادات يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، وأخضعها للتثبت قبل أن تتورط في تبنيها أو المشاركة في ترويجها.