فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

خير الفرص لتصحيح المسار

في تاريخ العلاقات بين الأنظمة تصل الأزمات الطارئة التي يمكن معالجتها بالحسنى إلى درجة الخصومة، فانقطاع العلاقات الدبلوماسية، ثم تقطيع الأواصر بين الشعوب وتعطيل المصالح بجانبيها - مصالح الدول ومصالح الناس - أسوأ تعطيل. وتطول هذه الحالات، مع أن بعض الحنكة والحكمة وتقديم الصالح العام على الكبرياء الخاصة من شأن الأخذ بهما ترويض الأزمة، وإنزال درجة غليانها إلى ما يجعلها أقل سخونة. وفي غمضة عين، يعود الصفاء بالتدرج، وتتوارى الأزمة، بما اختزنتْه من إجراءات وكلام.
وما بات واضحاً أن طول الأزمة لا يحقق أي مكاسب لهذا الطرف أو ذاك، وأن مَن يبادر يندرج اسمه في لائحة رجال الدولة الذين يؤثرون الشأن العام - شأن الشعب والوطن، وذلك لأنهما الباقيان - على الشأن الخاص.
مناسبة هذا الكلام أن سوريا المثخنة بكل أنواع الجراح والتلاعب الدولي والإقليمي في شأنها على موعد مع انتخابات رئاسية يوم 26 يونيو (حزيران) 2021، وهي محسومة النتيجة من قبْل أن تبدأ. ومع أنه كان لمصلحة سوريا - الوطن المتناثر والمتغانَم، والشعب المهاجر والمهجَّر - أن تُجرى انتخابات وفق صيغة دستورية مستحدَثة أخفقت اجتماعات جنيف في استيلادها، وبذلك يتم إسباغ مسحة حيادية أممية على الانتخابات، وتصبح النتيجة إرادة شعبية بامتياز، فإن الانتخابات بموجب «الدستور الأسدي» الذي مضى على وضْعه ثماني عشرة سنة خلت فيها سوريا من الاستقرار والدور بشكل مغيَّب، وصارت مشروع لعبة بدل أن تكون مشروع دور، تشكِّل في أي حال خير فرصة للرئيس بشَّار الأسد كي يبادر باستئناف الترؤس إلى إعادة النظر، حتى إذا هو أعطى هذه الإعادة مسحة «التصحيح» الذي كان الشعار الذي أسبغه والده على الإمساك بالسُلطة، متفادياً اعتبار أن ما قام به كان انقلاباً عسكرياً، وهو الذي يرى أن الانقلابات العسكرية السورية منذ حسني الزعيم تنجح إلا أن دوامها من المحال، فضلاً عن أن مجرد تصور النهايات، وتحديد ما انتهى إليه أمر المثلث الانقلابي العسكري الشهير (حسني الزعيم، سامي الحناوي، أديب الشيشكلي) تجعل الجنرال (وهو هنا الفريق حافظ الأسد) المتطلع إلى الجلوس في قمة السُلْطة يتنبه ويبتكر. ومن هنا جاء «ثورة التصحيح» التي كانت أفضل دثار لعقديْن من الحُكْم العاصف، أخذت سوريا خلال هذه السنوات المكان والمكانة في المشهد العربي بنسبة عالية، وفي المشهد الدولي كجلوس على أحد المقاعد الخلفية بنسبة خجولة.
ونحن عندما نرى محسومية نتائج الانتخابات تتويجاً للرئيس بشَّار الأسد في ولاية جديدة، فلأن الخمسين مرشحاً الذين قرروا خوض السباق سجلوا بترشحهم، ومن قبْل أن ينتهوا اثنين مقبولاً ترشحهما إلى جانب الرئيس بشَّار، انطباعاً بصُوَرية المناسبة، فلا هي مفبركة ولا هي بفعل التحدي ولا حتى بغرض التشويش وتقليل النسبة المئوية، ولا حتى الإيحاء بأن المعارضة حاضرة داخل سوريا، ذلك أن هؤلاء الخمسين من أهل البيت الواحد، أو فلنقل إنهم من المتظللين بالخيمة البشارية المعطوبة منذ عقْد سوري منتَفِض، ولن يزيل من الأذهان الانطباع بأن الخمسين كانوا بمثابة تزويق للمشهد الانتخابي الذي كان لمصلحة الرئيس بشَّار أن يكون هنالك جياد في السباق... وبالذات من خارج هؤلاء السياسيين الخارجين على الطوع الأسدي، ويجوبون عواصم عربية وإقليمية، وبذلك تعطى المناسبة الانتخابية الرئاسية مسحة من الوقار. لكن الذين نشير إليهم يشغلون مكانات مرموقة في مجال الأعمال والتخصصات على أنواعها خارج البلاد منذ سنوات. وثمة مادة احترازية في الدستور الذي يعود إلى 18 سنة خلت منتبهة إلى احتمال أن يقتحم الحلبة أحد هؤلاء، ويلقى ترحيب الناس بأمل أن يضع سوريا على طريق الاستقرار المدني، بديلاً للاستقرار الأمني - الحزبي - العائلي. والمادة التي نشير إليها لا تجيز الترشح لمَن مضى على اغترابه عن البلاد عشر سنوات. لماذا هذا المنع؟ وهل غربة العقد الواحد من السنين تنزع جلد المواطن؟ إنها اليقظة التي باعتمادها يمكن تجنُّب ما تتحسب ثقافة الحُكْم الأسدي لحدوثه.
ما يلفت الانتباه أن الرئيس بشَّار لم يعلن ترشيح نفسه رسمياً إلا قبْل أسبوع من انتهاء المهلة المحددة لتقديم الترشيحات، وهي عشرة أيام انتهت يوم الأربعاء 28 أبريل (نيسان) 2021. وسبقه إلى الترشح خمسة، لم يطرح أي منهم برنامجاً، كما الرئيس بشَّار الأسد الذي لم يقدِّم هو الآخر برنامجه. ثم بعد هؤلاء الخمسة، زاد عدد المرشحين، كما لو أن مقعد الرئاسة السورية هو كرسي في صالة يقام فيها معرض أو تُلقى محاضرة.
بطبيعة الحال سيبدأ الدكتور بشَّار الأسد ولاية رئاسية جديدة. الفوز بطبيعة الحال مضمون، والنسبة المئوية تسعينية، كما حال استفتاءين ارتبطا بترؤسه. لكنه فوز متشقق لأن سوريي الخارج الموزعين على بلاد الله الواسعة غير معنيين بالعملية الانتخابية، مثلما أن النظام لا تعنيه توجهاتهم ولا فاعلياتهم، وإلا لكانت المناسبة الانتخابية فرصة لكي تبدأ رحلة العودة.
عندما تم ترئيس الدكتور الآتي إلى العرين الأسدي من فترة تخصص في بريطانيا، رافقها زواج من أسماء الأخرس، ساد الانطباع بأن الابن المتشرب ثقافة وتقاليد الدولة النموذج في الحياة السياسية الديمقراطية، سيمسح عن سنوات حُكْم الأسد الأب ندوباً كثيرة، وسيبدد بالتدرج الانطباع السائد بأن سوريا ذات شعبين، وسيعمل بحيث تكون شعباً واحداً، ذلك أن صيغة الرداء البعثي لم تحقق الدفء الطبيعي في الجسم السوري، وأنه أفاد آنياً، ثم جاءت الانتفاضة تكشف هشاشته. كما ساد انطباع بأن الرئيس التاسع عشر سيضع سوريا التي لم تستقر على حال على مدى ثمانية عقود من الانقلابات والانتخابات غير المكتملة الوصول، في المكانة التي تليق بها تاريخاً وجغرافيا.
وعندما تسلَّم الدكتور بشَّار الرئاسة، وعلى أهون إجراءات التسلم، كان في الخامسة والثلاثين. على مدى عشرين سنة، لم تهنأ سوريا بالاستقرار الذي في ضوئه تتحول إلى دولة صناعية رائدة. اختلطت العقيدة الحزبية بالممارسة الأمنية بالخصوصية المذهبية بالتدخل فيما لا يعني السوريين، فانتهت سوريا ملعباً للاعبين أغراب لا وجود للعربي بينهم. جاء الإيراني مستوطناً، تلاه الروسي ينشئ دويلة جوية - برية - بحرية. وأبعد النظام، بفعل الاضطرار أو الاختيار لا فرق، الأخ العربي عن القيام بدوره العلاجي له. وكما انتشرت الذئاب الداعشية، فإن قوافل من مقاتلين من «حزب الله» ما زالت جزءاً من المعادلة السورية - اللبنانية.
يحتاج الوضع بكل حلقاته، الظاهر منها والمستتر، لإعادة نظر من جانب الرئيس بشَّار الذي دخل في العمر الثاني، فهو في السادسة والخمسين، وبات على مدى عقدين من الحُكْم، يحتاج كما الشعب بجناحيْه المقيم الصامد والمشتت بين مهاجر رغم أوضاعه ومهجور يعيش لاجئاً بحول من الله ونجدات عربية وأممية. وعلى ما هي الأحوال السائدة، فإن الأبواب العربية ليست مغلقة تماماً أمام عودة الشقيق الذي لم تكن مجدية حذاقته في الرهان على دولتين أعطيتاه من طرف اللسان والقدرات العسكرية طمأنينة في البقاء، لكنهما خطفتا منه الشأن في الحد الأقصى أحياناً والتقاسم معه أحياناً أُخرى. أعان الله السوريين وأعاد سوريا إلى أمتها.
ما يقال بالنسبة إلى الرئيس بشَّار الأسد يقال بالنسبة إلى أهل الحُكْم الإيراني الذين صار لزاماً في ضوء إخفاق مشروعهم البدء بصفحة جديدة مع معظم العرب، وطي الكم الهائل من صفحات ذلك المشروع الذي عطل التنمية، وأربك الوحدة الوطنية والتعايش الطوائفي في ديار كثيرة من الأمتين.
والله المعين لمَن في يده توظيف الفرصة المناسبة، ويسلك السبيل من أجل سلامة الوطن وطمأنينة الشعب... إن هو أقدم على ما يرضي رب العالمين.