ستيفن ميهم
TT

اللقاحات وحّدت صفوف دول متناحرة في أحلك الظروف

مع دخول العالم عامه الثاني من الجائحة الفتاكة، من الصعب أن يتجاهل المرء الشعور بأن كل دولة في العالم انكفأت على نفسها وانغمست في شؤونها. ومن مشاهد الدول وهي تسارع إلى تكديس اللقاحات لديها، إلى القيود المفروضة على السفر والتي تبدو دونما نهاية، يبدو أن الجائحة أججت النعرات القومية وقلصت مستوى التعاون الدولي.
ومع ذلك، وحتى في ظل هذه المرحلة من الجائحة، يمنحنا التاريخ سبباً للأمل في غد أفضل؛ ذلك أن التاريخ الطويل لـ«دبلوماسية اللقاحات» يؤكد أن الأوبئة لا تؤدي دوماً إلى تشتيت صفوف الدول.ويمكننا القول بأن قصة دبلوماسية اللقاح تبدأ بـ«الوحش الأرقط»: الجدري. على مدار قرون عدة، ابتليت البشرية بهذا الفيروس الذي تسبب في مقتل ما بين 20 في المائة و60 في المائة من ضحاياه، بينما ترك الناجين مشوهين بصورة مروعة أو محرومين من القدرة على الإبصار.
ولاحظ إدوارد جينير، طبيب كان يعيش ببريطانيا في القرن الثامن عشر، أن الخادمات المعنيات بحلب الأبقار نادراً ما يصبن بالجدري. وعزت بعض الخادمات منهن هذه الحماية إلى حقيقة أن غالبيتهن أصبن بالفعل بمرض آخر ذي صلة، لكنه غير ضار في الجزء الأكبر منه: جدري البقر. وعليه، تكهن جينير أنه حال حقن شخص ما بجدري البقر، فإن ذلك سيمنحه مناعة ضد الجدري.
وكان جينير مصيباً في توقعه، وأطلق على هذه الطريقة التطعيم. جدير بالذكر، أن «فاكا» كلمة لاتينية تعني بقرة. ومع أن الكثيرين هاجموا جينير، اكتسبت دعوته للتطعيم مؤيدين بارزين في أرجاء بريطانيا.
من ناحيته، نشر المؤرخ مايكل بينيت في وقت قريب كتاباً استعرض خلاله تفاصيل هذه الحملة الرائعة التي جاءت خلال فترة حرب ضروس بين بريطانيا وفرنسا، وكذلك صراعات أخرى بأرجاء العالم. ومع هذا، لم يردع هذا الوضع جينير. وأثناء الحروب النابوليونية، أطلق أمام نظرائه الفرنسيين جملته الشهيرة «العلوم لا تدخل في حرب أبداً».
وقد يبدو هذا القول شديد السذاجة اليوم، لكن جينير وشبكة متنامية من حلفائه حول العالم شرعوا في شحن اللقاحات بين الدول المتحاربة؛ ما أعطى الصحة العامة أولوية أكبر عن الصراعات الوطنية. وسرعان ما وجد جينير نفسه مدفوعاً نحو العمل كدبلوماسي غير رسمي بين بريطانيا وفرنسا ويحظى بثقة البلدين.
بوجه عام، نجحت جهود التطعيم في إحداث تحول في العلاقات الدبلوماسية حول العالم. قبل جينير، لم يكن بوسع البلدان فعل الكثير لتقديم يد العون لبعضها بعضاً في مكافحة الأوبئة. في تلك الظروف، كان الطب التقليدي عديم الفائدة إلى حد بعيد، ولم يكن باستطاعة جميع أموال العالم وقف زحف الجدري. إلا أن اللقاحات كان باستطاعتها ذلك، وسرعان ما بدأت الدول في استغلالها كوسيلة لشراء النوايا الحسنة.
كانت تلك جهود خيرية مغلفة في إطار من المصالح الذاتية الوطنية. في الواقع، راود جينير والسلطات البريطانية الأمل في جعل التطعيم جزءاً لا يتجزأ من أسلوب إدارة الإمبراطورية البريطانية المتنامية. وكان يجينر يأمل في أن «نرى قريباً جمعيات تتشكل بمختلف أرجاء الإمبراطورية للقضاء على الجدري» على مستوى يكافئ البنية التحتية الطبية التي كان يبنيها داخل أرض الوطن.
ولفت هذا الأمر أنظار دول أخرى. وفي وقت مبكر من عام 1801 بدأت الولايات المتحدة في تقديم لقاحات الجدري لكبار مبعوثي القبائل الهندية، بل وأرسل الرئيس توماس جيفرسون اللقاحات غرباً مع بعثة لويس وكلارك الشهيرة، رغم أنها فسدت على ما يبدو قبل أن يتمكنا من استخدامها.
أما فرنسا، فقد انتقلت بدبلوماسية اللقاح إلى نقطة أبعد عن أي دولة أخرى، فبعد أن طور عالم الأحياء المجهرية لويس باستور لقاحاً يمنع داء الكلب - مرض مروع قتل كل من أصيب به - بدأت الحكومة الفرنسية في بناء مختبرات بجميع مستعمراتها من أجل توزيع اللقاح على نطاق واسع.
بطبيعة الحال، كانت هذه المقولة في حقيقتها مثالية أكثر عن كونها واقعية، لكن باستور كان يسعى من ورائها لهدف معين. وفي ذروة الحرب الباردة، اقتربت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بشكل خطير من الدخول في مواجهة نووية مرات عدة. ومع ذلك، نجح البلدان في التعاون معاً في تطوير لقاح شلل الأطفال،موتى.
وفي خمسينات القرن الماضي، بدأت الولايات المتحدة في توزيع لقاحات ضد شلل الأطفال طوّرها جوناس سولك. واعتمد هذا اللقاح على نسخ ميتة من الفيروس من أجل استثارة رد فعل ضدها من جهاز المناعة. ورغم صحتها، اتسمت هذه الطريقة بعيوب خطيرة، أبرزها الاعتماد على تطعيمات متعددة وتعزيزات.
من ناحيته، عارض عالم الفيروسات ألبرت سابين نهج سولك، ودعا لاستخدام نسخة حية، لكن ضعيفة، من الفيروس. ولسوء الحظ، لم تتوافر إرادة ولا وسيلة لاختبار هذا الأسلوب على أطفال أميركيين؛ نظراً لأن الكثيرين منهم كان قد جرى تطعيمهم بالفعل بلقاح سولك، ولم تبد غالبية الآباء والأمهات رغبة في خوض مزيد من التجارب.
ومع ذلك، كان هناك بلد آخر على استعداد للمجازفة: الاتحاد السوفياتي. عام 1956. زار فريق من علماء الفيروسات الروس يتألف من زوج وزوجة، سابين ليبدا بين الجانبين تعاون مستدام. وفي الوقت الذي كان عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) والاستخبارات السوفياتية (كيه جي بي) يحومون حول الفريقين، نجح الأميركيون في إعداد سلالة ضعيفة من فيروس شلل الأطفال لحقن الأطفال السوفيات بها.
وبينما خاض البلدان حروباً بالوكالة ضد بعضهما بعضاً حول العالم، تمكنا من التعاون معاً في واحدة من أكبر تجارب اللقاحات في تاريخ البشرية. وتولى الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية نهاية الأمر تطعيم أكثر عن 100 مليون شخص، معظمهم من الأطفال، وأظهرت الحملة أن لقاح سابين آمن وفاعل وقابل للإنتاج بسرعة على نطاق واسع.
وسرعان ما تحولت الولايات المتحدة إلى طريقة سابين في التطعيم. وبعد ذلك، بدأ البلدان في توزيع لقاح شلل الأطفال حول العالم. وكان جزء كبير من هذه الجهود مجرد دبلوماسية لقاحات كلاسيكية، مع سعي كل دول لشراء حسن النوايا من خلال توفير معجزات الطب الحديث. بيد أنه بغض النظر عن النية، كان أطفال العالم هم المستفيد الأول من الأمر. وينطبق الأمر ذاته على تعاون القوتين العظميين في القضاء على الجدري، فبعد أن طور الاتحاد السوفياتي نسخاً مجففة بالتجميد من لقاح الجدري، عمل البلدان معا على ما يزال حتى يومنا هذا أكثر برامج التطعيم نجاحاً في التاريخ البشري؛ ما أثمر القضاء الكامل على الجدري.
وتؤكد جهود التعاون الناجحة سالفة الذكر حقيقة أساسية مفادها، أن المنافسات الجيوسياسية بين الدول لا ينبغي لها بأي حال عرقلة تنظيم استجابة عالمية فاعلة ضد الأوبئة الفتاكة.
ويستحق هذا الدرس الانتباه إليه اليوم بينما تدخل جائحة فيروس «كوفيد - 19» الفتاكة عامها الثاني. وما دامت تحاول الدول المختلفة التغلب على الجائحة بمفردها، سيكون الفشل نصيبها، لكن إذا أعاد العالم إحياء نموذج التعاون الذي خلّص العالم من أمراض مثل الجدري وشلل الأطفال، فإننا قد ننتصر على أرض الواقع على الجائحة الحالية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»