السرعة التي أظهرها دونالد ترمب في تشكيل فريقه القادم تُوحي بأنه يعتزم العمل بجدية حال تنصيبه في 20 يناير (كانون الثاني). واختياره لصديقه المقرب ستيف ويتكوف مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط يعني أنه يعتزم أن يكون هذا الملف قريباً منه، وليس في يد البيروقراطية.
خلال عهده الأول (2017 - 2021) كانت ثمة علاقة قوية تربط البيت الأبيض ومنظومة مجلس التعاون، جماعياً وثنائياً، مع الدول الأعضاء، منذ خالف التقاليد واختار الرياض محطة لزيارته الأولى خارج الولايات المتحدة، في مايو (أيار) 2017. واجتمع حينها بقادة مجلس التعاون والدول العربية والإسلامية. ومع أنه كان ثمة تباين أحياناً في وجهة النظر، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فإن روح التعاون والتنسيق استمرت وتعززت خلال فترة حكمه.
يمكن اختصار ما يريده الخليج خلال العهد الثاني تحت ثلاثة عناوين: سياسي واقتصادي وثقافي. فشعار ترمب «إنهاء جميع الحروب» مُغرٍ لأهل الخليج، كما هو توظيفه للمصالح الاقتصادية لتحقيق ذلك. ومع أنا نشترك في الحاجة للتصدي للهجرة غير الشرعية وللممارسات التجارية الضارة، فإننا قد نختلف في الحلول. وفيما يتعلق بالحروب الثقافية المستعرة في أوروبا وأميركا، فإن الخليج يرغب في العمل مع الولايات المتحدة للتصدي للكراهية والتعصب.
فأولاً، على المستويين السياسي والاستراتيجي، هناك دعم خليجي لتصفير الصراعات والعودة للدبلوماسية والحلول السياسية. وليس ثمة شك بأن النظام الدولي مُعطّل بسبب الخلافات بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، مما شلّ قدرة الأمم المتحدة على ممارسة دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين. ومن مظاهر ذلك عدم قدرتها على وقف حرب إسرائيل على غزة ولبنان.
وفيما يتعلق بغزة والقضية الفلسطينية، فإن مجلس التعاون سيتطلع للعمل مع الإدارة الأميركية لإنهاء الحرب وحل الصراع، الذي تكلم المجتمع الدولي بإجماع عن أبعاده، فتوافق على أن يعتمد الحل على ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها. وليس هناك سوى عدد محدود من الدول التي ما زالت تستطيع التعايش مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ومطامعها التوسعية في فلسطين.
اتضحت الصورة تماماً خلال مداولات «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»، الذي عُقِد في الرياض 30 - 31 أكتوبر (تشرين الأول)، وشارك فيه نحو 90 دولة، منها الولايات المتحدة؛ فكان ثمة توافقٌ على الحاجة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، وعلى إعادة توحيد القطاع مع الضفة تحت قيادة السلطة الفلسطينية، والشروع في طريق لا رجعة فيه لتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس، وفقاً لمبادرة السلام العربية.
أما القمة الاستثنائية التي عُقدت في الرياض أيضاً، يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، فقد عبرت عن وحدة الصف للعالمين العربي والإسلامي تجاه هذه القضية، وطالبت بملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عن الجرائم المروعة التي يرتكبونها في فلسطين.
المطلوب أن تعمل إدارة ترمب على خفض الصراع في المنطقة، وتمهيد الطريق لحلول دائمة في غزة والضفة ولبنان والمنطقة كافة. وأن تكون الدبلوماسية نقطة الانطلاق في التعامل مع إيران وأنصارها.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن مجلس التعاون يشارك ترمب في الحاجة إلى محاربة الممارسات التجارية الضارة، ولكنه يعتقد أن ذلك يجب أن يتم من خلال إصلاح النظام التجاري الدولي، الذي تضرر كثيراً بسبب الاستقطاب الحاد بين الدول النامية والدول الصناعية، مما دعا القوى الاقتصادية الكبرى إلى نبذ التعاون واللجوء إلى الإجراءات الأحادية والانتقامية. كان هذا ظاهراً في العهد الأول لترمب الذي تبنى سياساتٍ حمائية، وفرض رسوماً جمركية باهظة طالت صادرات دول مجلس التعاون إلى الولايات المتحدة، واستمرت تلك الرسوم إلى الآن.
وتشير الدعاية الانتخابية لترمب إلى أن الرسوم الجمركية سترتفع على الواردات من الصين، وهي الهدف الأساسي المقصود من تلك السياسة.
الطريقة المُثلى لحل الخلافات التجارية تتم عن طريق تعزيز دور منظمة التجارة العالمية وتقوية آليات حل الخلافات في المنظمة.
أخيراً، فإن الخليج يتمنى أن يقود البيت الأبيض حملة المصالحة الثقافية والتفاهم المتبادل. فالحروب الثقافية قد أدّت إلى ارتفاع وتيرة خطاب الكراهية وجرائمها في مناطق كثيرة. ومن الثمار المقلقة لهذه الحروب احتداد مظاهر العنصرية والعداء للأديان، خاصة ظاهرة الإسلاموفوبيا.
فإذا اعتزمتْ إدارة ترمب التصدي للتراشق الثقافي، فستجد دول الخليج والعالمين العربي والإسلامي مستعدة للعمل معها لتعزيز التسامح الديني والثقافي.
من حسن الحظ أن هذا التعاون يمكن أن يتم من خلال إطار متفَق عليه سلفاً، هو «الشراكة الاستراتيجية بين مجلس التعاون والولايات المتحدة»، التي تتضمن آليات متعددة، على مستوى القادة والوزراء والخبراء والمختصين، واللجان ومجموعات العمل، التي تتناول السياسة والدفاع، والحروب السيبرانية، والأمن البحري، والدفاع الجوي، والإرهاب، وغيرها، فضلاً عن التنسيق بينهما من خلال عضويتهما في «القوات البحرية المشتركة»، وهو تحالف دولي مقره في البحرين ويضم 46 دولة و5 مجموعات تعالج التهديدات في البحر الأحمر والخليج العربي وما بينهما.
أما «حوار التجارة والاستثمار»، والاتفاقية الإطارية التي أُبرمت عام 2012 للتعاون الاقتصادي، فإنهما يمثلان القناة الطبيعية لتنسيق السياسات التجارية. ولما كانت أميركا ودول المجلس من كبار المنتجين للطاقة، فإن هناك تقاطعات كبيرة في مصالحهما بمجالَي الطاقة التقليدية والطاقة المتجددة. وبالمثل، فإن هناك حاجة لاستمرار تنسيق السياسة النقدية، فارتباط معظم العملات الخليجية بالدولار يعني أن إجراءات مجلس الاحتياطي الأميركي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الخليجي، وتتطلب لذلك استمرار التنسيق بينهما.
فهذه أمثلة من المصالح المشتركة. وإذا اتخذنا الماضي دليلاً، فمن المتوقَّع أن يستمر ويتعزز التعاون بين الجانبين خلال عهد ترمب الثاني. وبالطبع، فإن تباين وجهات النظر أمر طبيعي، ولكن الأطر الموجودة لإدارة هذه العلاقة تسمح بمعالجتها بطريقة عقلانية دون أن تصل إلى قطيعة.