جيمس ستافريديس
- أميرال بحري متقاعد بالبحرية الأميركية وقائد عسكري سابق لحلف الناتو وعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة تافتس < بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

مسار تصادمي أميركي ـ روسي في البحر الأسود

تنفس الشعب الأوكراني الصعداء على الصعيد الوطني بأكمله خلال الشهر الماضي، إثر تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنَّه يعتزم سحبَ السواد الأعظم من القوة العسكرية البرية التي يتجاوز قوامها 100 ألف جندي، والتي كانت قد أُرسلت إلى خط المواجهة على الحدود الروسية - الأوكرانية المشتركة. كما شاعت حالة من الارتياح كذلك لدى كل من الولايات المتحدة، وبلدان منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبقية البلدان الأوروبية.
غير أنه لا ينبغي لأحد التنفس بكل هذه الأريحية والسهولة: فالرئيس فلاديمير بوتين ليس من الشخصيات العاشقة للتراجع عن أي مواجهة كان قد خطط لها من قبل، واعتزم المضي قدماً فيها. ومن ثم، أين يمكن أن نتوقع شهود استفزازه العسكري المقبل؟ إنها مياه البحر الأسود على أرجح التقديرات الراهنة.
أقدمت الآلة العسكرية الروسية على غزو الأراضي الأوكرانية في عام 2014، ثم اجتزأت القيادة الروسية شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الاستراتيجية البالغة، وبسطت السيادة الروسية عليها، فيما يعد أكبر حالة اعتداء على الأراضي من دولة ذات سيادة في القرن الحادي والعشرين. ومنذ تلك الأثناء وحتى الآن، لم تتوقف القيادة الروسية عن إمداد القوات الانفصالية في منطقة دونباس إلى الجنوب الشرقي من أوكرانيا بكل ما يلزمها من أموال، وأسلحة، وعتاد، وتدريبات، فضلاً عن المستشارين العسكريين الروس.
ربما كانت التعزيزات العسكرية البرية الروسية الأخيرة إلى الحدود الغربية، إشارة إلى مدى الحدة والقسوة التي يمارسها فلاديمير بوتين في الضغط على الحكومة الأوكرانية للإعراب عن معارضته القوية، وموقفه المتصلب إزاء اعتزام الأخيرة الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي. كما كان هناك غرض سياسي داخلي من وراء تلك التصعيدات العسكرية يتمثل في صرف الانتباه الدولي عن اضطهاد حكومته للمعارض الروسي الشهير أليكسي نافالني، مع محاولته الحفاظ على وتحسين صورته لدى المؤيدين له من أبناء شعبه، لا سيما أنَّ أسهم شعبيته كانت قد ارتفعت كثيراً إبان عملية ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. أخيراً وليس آخراً، أتاحت التعزيزات العسكرية الروسية المشار إليها تنفيذ القيادة الروسية لتدريبات عسكرية بالغة الأهمية، في حالة إذا رغب الزعيم الروسي في الإطاحة بأوراق اللعب عبر الطاولة والانتقال فوراً إلى غزو الأراضي الأوكرانية على نحو مباشر.
وعلى الرغم من أنه ليس من الحكمة الحصيفة على الإطلاق الإقلال من قدر بوتين أو من قدرته على اللعب بعنصر المفاجأة في تعاملاته مع خصوم السياسة الدولية، فإنَّ التصعيد العسكري الأخير لا يشير أبداً إلى الإقدام على عملية غزو برية شاملة. لقد أضافت مغامرات القيادة الروسية في الخارج إلى خزانة البلاد كثيراً من الأثقال والأعباء المالية الشديدة. ومن شأن فاتورة إعادة إعمار سوريا أن تخرج بأرقام ذات أصفار فلكية، فضلاً عن التكلفة الباهظة التي تتكبدها القيادة الروسية في دعم وإسناد القوات الانفصالية في أوكرانيا. ناهيكم عن شهية الرئيس الروسي الكبيرة لتطوير وللحصول على الأسلحة الحديثة والمتطورة فائقة التكلفة (ومن بينها محاولة عسكرة الفضاء على سبيل المثال). ويُضاف إلى ذلك ملف العقوبات الاقتصادية الغربية ضد الحكومة الروسية.
وما قد يتخير الرئيس الروسي فعله بدلاً من ذلك، هو أن ييمم وجهه شطر البحر، بُغية تعزيز وجوده وبسط سيطرته على مياه البحر الأسود.
تسنى لي الإبحار عبر مضيق البوسفور الضيق والمهم في تركيا عن مدخل هذا المسطح المائي الضخم والحيوي 6 مرات كاملة، ودوماً ما أدهشتني أهميته الاستراتيجية الفائقة. إذ تبلغ مساحة البحر الأسود نحو ثلث مساحة خليج المكسيك، وتطل على شواطئ البحر الأسود عدة بلدان هي: بلغاريا، وجورجيا، ورومانيا، وروسيا، وتركيا، وأوكرانيا. وتجمع ما بين هذه البلدان روابط عديدة، وعميقة، وراسخة يجمعها مزيج من اللغات، والثقافات، والعادات، وغير ذلك من عضوية أهم حلف عسكري على وجه الأرض، فضلاً عن الحجم الاقتصادي الهائل ما بين هذه البلدان وبعضها، ما يثير الذهول بحق، تماماً كما الحال مع التاريخ الطويل والغزير الذي يجمع بينها. وقال اليونانيون القدماء إن أبطال الإغريق القدامى من أمثال «جايسون» وبحارة «الأرجو» قد خاضوا غمار هذه المياه في الأزمنة البعيدة، كما يعتقد عدد لا بأس به من علماء الكتاب المقدس أن سفينة النبي نوح قد أبحرت عبر مياه البحر الأسود.
هناك ثلاثة من البلدان المطلة على البحر الأسود هي من الدول كاملة العضوية في حلف شمال الأطلسي، وهي: تركيا، ورومانيا، وبلغاريا، فضلاً عن دولتين شريكتين مقربتين أخريين هما أوكرانيا وجورجيا (تفرض روسيا احتلالاً عسكرياً على بعض أراضي البلدين راهناً). وعلى غرار ما يجري في بحر الصين الجنوبي، فإن مستقبل البحر الأسود يُنبئ بتحوله عما قريب إلى بؤرة اشتعال عسكري بحري محتملة. وما يُضاف إلى ذلك، من المرجح أيضاً أن يتحول البحر الأسود إلى مصدر غني للغاية برواسب النفط والغاز الطبيعي الهائلة، والتي إن أسفرت عن شيء فلن يكون سوى مزيد من تفاقم التوترات والاضطرابات في تلك المنطقة من العالم، تماماً كما هو واضح من دراسة حديثة أشرفت عليها مؤسسة «مجلس الأطلسي» البحثية.
بسطت القيادة الروسية سيطرتها الكاملة على شبه جزيرة القرم في المقام الأول، بسبب الموانئ الممتازة التي تتميز بها هذه المنطقة - إذ كانت محل الميناء الرئيسي للقوات البحرية الأوكرانية عندما كنت في زيارة إلى هناك إبان شغلي لمنصب قائد قوات حلف شمال الأطلسي - وهي منطقة تفرض مجال السيطرة الطبيعية على الممرات البحرية ما بين روسيا وأوكرانيا. وفي استعراض للظروف التي ربما يتمخَّض عنها اشتعال الصراع البحري المحتمل في تلك المنطقة: في أواخر عام 2018، استولت القوات البحرية وقوات حرس السواحل الروسية على ثلاث سفن عسكرية أوكرانية أثناء محاولتها الولوج إلى مياه البحر الأسود، من خلال مضيق «كيرش»، ذلك الممر المائي الضيق الذي يفصل بين الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم.
وفي معاودة لمثل هذا النوع من التوترات، وفي منتصف أبريل (نيسان) من العام الجاري، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية إرسال مدمرتين من مدمرات الصواريخ إلى منطقة البحر الأسود، ذلك الإعلان الذي وصفه السيد سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي آنذاك بأنه يشكل «استفزازاً بالغاً للغاية». وعلى الرغم من أن القيادة الأميركية قد أعلنت على نحو مفاجئ إلغاء إرسال المدمرات إلى البحر الأسود، لم يمنع هذا التراجع القيادة الروسية من إغلاق المناطق الساحلية المتاخمة لشبه جزيرة القرم في وجه السفن الحربية الأجنبية كافة.
وعندما أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا في عام 2014، استعانت القيادة العسكرية الروسية بمجموعة بارعة للغاية من التكتيكات والتدابير في تلك الحملة. إذ شنت الهجمات السيبرانية الموجهة، مع الدفع بعناصر من القوات الخاصة غير الرسمية، ثم توجيه الهجمات المركزة على مفاصل النقل الأوكرانية، فضلاً عن حملات الدعاية الهائلة عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى عدد محدود ومدروس من الضربات العسكرية التقليدية التي اتسمت بالسرعة العالية والكفاءة الفائقة، وكان ذلك مجرد جزء مما جرى على أرض الواقع بالفعل. كانت تلك هي النسخة البرية من الحملة الروسية، وما من شك في أن هناك نسخة بحرية أخرى لدى فلاديمير بوتين سوف يستعين بها عندما يحين الوقت.
النسخة البحرية. من المحتمل أن تشتمل على شن هجوم بمزيج من زوارق الدوريات السريعة المجهزة بصواريخ سطح - سطح وصواريخ كروز فائقة السرعة للهجمات البرية، وذلك مع سلاح المروحيات المنقولة عبر السفن البرمائية لنشر عناصر القوات الخاصة، فضلاً عن غواصات الديزل التي توجه الهجمات ضد الأهداف العسكرية والمدنية في أوكرانيا، ذلك مع الهجمات السيبرانية الموجهة لتعطيل مراكز القيادة والسيطرة في الجيش الأوكراني، والهجمات البرمائية التي تتركز عند مفارق الطرق الاستراتيجية خلف الخطوط الأوكرانية. سوف تهدف الحملة البحرية الروسية إلى إغراق أوكرانيا تحت وطأة الهجمات التي لن تتمكن قيادة حلف الناتو من الاستجابة لها بالسرعة المطلوبة أو الكافية، حتى إن كانت على أهبة الاستعداد للتدخل في ذلك.
يكمن الغرض الرئيسي من هذه الحملة في تحييد القوات البحرية الأوكرانية، مع السيطرة الكاملة على المنطقة البحرية في شمال البحر الأسود، وعزل القوات البرية الأوكرانية عن خطوط الإمداد، وبسط السيطرة على جزء من الأراضي الأوكرانية يمكن أن يربط روسيا مع شبه جزيرة القرم.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»