ستيفن ميهم
TT

الأكسجين الطبي مفتاح مكافحة «كوفيد»

قد تنذر المشاهد اليائسة التي تحدث في الهند بمرحلة جديدة وخطيرة من الوباء، حيث يموت الناس بأعداد كبيرة، ليس بسبب المرض لكن بسبب نقص الرعاية الطبية اللازمة، ويمكن أن يزداد الوضع سوءاً بسبب النقص المفاجئ في الأكسجين الطبي في البلاد.
الأكسجين من أكثر الطرق المباشرة والاستباقية لعلاج المرض الذي يسبب ما يعرف بـ«نقص الأكسجة». فعندما يبدأ المرضى في اللهاث بحثاً عن الهواء، فإن الإمداد المستمر بالأكسجين المركز يصنع المعجزات.
قد يبدو الأمر وكأنه علاج واضح بعد فوات الأوان، ومع ذلك فقد استغرق الأمر ما يقرب من قرنين من الزمان للتغلب على النظريات الغريبة والشعوذة الصريحة وحرب الخنادق في الأوساط الطبية وما وراءها.
يعود تاريخ استخدام الأكسجين في الطب إلى سبعينات القرن الثامن عشر، عندما عزل الصيدلاني السويدي كارل شيل والعالم البريطاني جوزيف بريستلي، غاز الأكسجين بشكل مستقل، لكن بريستلي حصل على نصيب الأسد من الفضل في الإنجاز بشكل غير عادل.
ومما زاد الطين بلة أن بريستلي كان مؤمناً بما يسمى «الفلوجستن»، وهي مادة غير مرئية يُزعم إطلاقها أثناء الاحتراق. وما نسميه «الأكسجين» أطلق هو عليه «الهواء المتطور» لأنك عندما تتنفسه تشعر بأن صدرك أصبح «خفيفاً بشكل عجيب وتشعر بسهولة في التنفس لفترة من الوقت بعدها». وتباهى بريستلي لاحقاً باكتشافه العلمي قائلاً: «فأران (من فئران الاختبار) فقط وأنا كان لنا حق امتياز استنشاق الغاز المعجزة».
ونظراً لأن المادة الجديدة تبدو وكأنها تجعل الشموع أكثر إشراقاً، فقد تكهن بريستلي بأنها قد تكون «مفيدة بشكل خاص للرئتين في بعض الحالات المَرَضية عندما لا يكون الهواء العام كافياً لطرد الهواء الفاسد». ومع ذلك، فقد ظل متمسكاً بنظرية «الفلوجستن»، محذراً من أن استنشاق الأكسجين النقي قد يحمل أيضاً مخاطر تشبع احتراق شمعة من كلا الطرفين.
وحرصاً على اختبار تأثيرات المادة الجديدة على المرضى، أسس بريستلي ومهندسون وعلماء آخرون، بما في ذلك جيمس وات، «معهد الهواء المضغوط» في برمنغهام ببريطانيا. ورغم أنهم لم يقدموا أي وعود بالشفاء، فإنهم عرضوا علاج مجموعة من الأمراض - بما في ذلك «الشكاوى التناسلية المستعصية» - باستخدام الهواء الخالي من «الفلوجستن».
لم يحققوا ذلك النجاح الكبير، لكن كان هناك جانب إيجابي. فكما لاحظ أحد المؤرخين الطبيين، نجح هذا الطاقم في اختراع غالبية أجهزة توصيل الأكسجين التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم، من أبواق الفم إلى أنابيب التنفس المموجة غير القابلة للكسر إلى طرق إنتاج الغاز بكميات كبيرة.
انتهى العمل في «معهد الهواء المضغوط»، لكن الأكسجين عاش كعلاج يعرضه دجال. معظم تلك العلاجات لم تستخدم في الواقع الأكسجين المركز، ولم توزع شيئاً أكثر من خليط من الغازات التي لا تختلف كثيراً عن الهواء العادي، وعادة ما تكون قليلة القيمة.
لكن هذا لم يمنع مقدمي هذه الأدوية من طرح ادعاءات سخيفة بشأن منتجاتهم. فقد أرسل صناع ما يسمى «علاج الأكسجين»، وهو علاج نموذجي من عام 1884 للمرضى بزجاجة واحدة من «الأكسجين» وزجاجة واحدة من «منشط الأكسجين». كان من المفترض أن يعالج هذا كل شيء من عُسر الهضم إلى التهاب المفاصل لمدة شهرين كاملين.
وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، كان العلاج بالأكسجين مرادفاً للشعوذة. ومع ذلك، في عام 1890، كان لطبيب يُدعى الدكتور ألفريد بلودجيت مريضة مصابة بالتهاب رئوي اعتبرها «محكوماً عليها بالفشل بشكل لا جدال فيه». وعلى أمل تخفيف الألم في لحظات المريضة الأخيرة، قام بتوصيلها بعلبة أكسجين وتشغيل الغاز، وتركه يعمل.
قد يكون هذا هو أول تطبيق مستمر للأكسجين لمريض في التاريخ. ولدهشة بلودجيت، استقرت حالة المرأة المريضة وأصبح تنفسها منتظماً. نشر بلودجيت نتائجه وجادل بأن الأكسجين يمكن أن ينقذ الأرواح. وكتب: «سيجري العثور على العديد من الحالات التي يمكن فيها التغلب بأمان على فترة الخطر الأعظم، التي لولا ذلك لكانت الأرواح ستضيع بلا شك».
ومع ذلك، كانت هذه مجرد بداية بعث الأكسجين. وبعد مقال بلودجيت، حاول باحثون آخرون استخدام الأكسجين، لكن ليس عن طريق الرئتينح إذ قاموا بضخه تحت الجلد حتى مجرى البول والمعدة. كانت الفكرة الأكثر غرابة هي فكرة حقنة الأكسجين الشرجية، التي جاءت على سبيل المجاملة لمبتدع غذاء «كورن فليكس»، أو رقائق الذرة، الدكتور جي إتش كيلوغ، الذي اكتسب شهرة أيضاً لنشره العلاجات الطبية ذات القيمة المشكوك فيها.
وضع طبيب أسكوتلندي يدعى جون سكوت هالدين حداً لهذا الهراء وأجرى الأبحاث اللازمة لإظهار أن تنفس الأكسجين سيكون أفضل، وأنه يجب أن يكون مستمراً وبتركيزات عالية بما يكفي للحصول على التأثير المطلوب. وفي عام 1917، نشر بحثه التاريخي بعنوان «الإدارة العلاجية للأكسجين».
كان توقيته مثالياً، ففي الحرب العالمية الأولى، استخدم كلا الجانبين الغازات السامة. وطور هالدين معدات توزع الأكسجين على الجنود الذين أصيبوا في هجوم بالغاز. وبعد الكثير من التجارب والخطأ، تمكن البريطانيون من تطوير معدات متنقلة يمكن استخدامها لعلاج الناجين ومنحهم إمدادات ثابتة من الأكسجين لفترات طويلة من الزمن.
كل هذا كان يجب أن يفتح أعين مهنة الطب على قيمة إعطاء الأكسجين المستمر. لكن الأمر استغرق 50 عاماً أخرى لينال إعجاب العديد من الأطباء الذين أصروا على إعطاء الأكسجين على فترات من أجل تجنب إيذاء المرضى.
انتقد هالدين العلاج المتقطع بالأكسجين، مشبهاً إياه بـ«إخراج رجل يغرق إلى سطح الماء قبل أن يموت ثم تركه يغطس مجدداً، وتكرار ذلك». لكن الأمر استمر حتى عام 1962 حتى دعمه الباحثون الطبيون بشكل قاطع. ووجدوا أن العلاج بالأكسجين المتقطع يؤذي المرضى أكثر مما لو لم يتلقوا الأكسجين على الإطلاق.
بمرور الوقت، تبنى عدد متزايد من الأطباء فكرة العلاج المستمر بالأكسجين. ففي الولايات المتحدة، تولى الدكتور توماس بيتي زمام المبادرة في استخدامه لعلاج المرضى الذين يعانون من أمراض رئوية متقدمة. وفي عام 1970، أظهرت دراسة أجريت على مرضى الرئة أصحاب الحالات المتقدمة أنه بينما توفي 28 في المائة من المرضى الذين عولجوا بالأكسجين المستمر، مات 62 في المائة من المرضى غير المعالجين. أخيراً حُسم هذا الجدل، ليمهد الطريق للمزيد من البحث حول الفوائد العديدة للأكسجين على مدار الخمسين عاماً الماضية.
يبدو أن للاكتشاف تأثيراً كبيراً على ضحايا «كوفيد – 19»، حيث تشير الأبحاث الأولية حول كيفية قيام الدول المختلفة بإعطاء الأكسجين في الأشهر الأولى من الوباء إلى أن الأكسجين الإضافي يصنع الفرق بين الحياة والموت لكثير من المرضى. وأظهرت دراسات أخرى أن الأكسجين يمكن أن يمنع المرضى من استخدام أجهزة التنفس الصناعي وينقذ الأرواح، خاصة إذا تم إعطاء الأكسجين مبكراً.
أبسط العلاجات كانت موجودة منذ زمن طويل ويمكن توزيعها على مجموعة من القطاعات: من خنادق الحرب إلى ساحة انتظار السيارات في المستشفى. ولحسن الحظ، تعمل الولايات المتحدة على مدار الساعة لجمع إمدادات الأكسجين للهند، وترسل المملكة المتحدة ما يقرب من 500 جهاز لإدارتها. إنها بداية جيدة لكن لا تزال هناك حاجة إلى المزيد.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»