د. سعود السرحان
* مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث
TT

«رؤية 2030»... صبح بدَّد الظنون

تفخر السعودية هذه الأيام بالذكرى الخامسة لـ«رؤية 2030» التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان تحت إشراف خادم الحرمين الشريفين ورعايته الكريمة.
على الصعيد الشخصي، تعود بي الذكريات عندما تم إطلاق هذه الرؤية وبرامجها المتنوعة والطموح، وكيف استقبلها العالم بإعجاب منقطع النظير، وإن كان بعض هذا الإعجاب قد جاء مشوباً بالحذر؛ ربما لما كانت تحمله المملكة من إرث ثقيل - أيامئذ - يمنع دولاً كثيرة من التفاؤل بحدوث تغيير كبير، ولا سيما في ملفات عُدَّت شائكة، مثل: الاستغناء المرحلي عن النفط، الذي يصفه خبراء الاقتصاد بأنَّه درة الاقتصاد السعودي، ولا حياة للمملكة إلا به، وحقوق المرأة وتمكينها، والشباب ومتطلباته ومشكلاته الحالية والمستقبلية. كما أن الرؤية واجهت تحفظاً مردّه إلى أنها بدت مهمة مستحيلة وصعبة في فترة زمنية قصيرة وحافلة بالعراقيل والتحديات من كل حدب وصوب.
ولأعترف، أنني كنت في أول تدشين «الرؤية» أستبعد حدوث تحولات عميقة للمجتمع السعودي في فترة وجيزة، كما توقعت أنها ستتعرض للرفض والشك والارتياب في بعض مخرجاتها، لكنَّ أول بواكير تحقُّق «الرؤية»، وحجم الإيمان بها في الداخل والخارج، والحماسة في جعلها نموذجاً يُحتذى جعل المخطئين في قراءة الرؤية - وكنت أحدهم - مغتبطين فرحين بإصرار القيادة السياسية، ممثلة في مهندس الرؤية، ومن ورائه الأجيال الشابة الجديدة على تحقيقها وتحويلها إلى معركتهم الخاصة باتجاه تعبيد الطرق نحو المستقبل، تجسيداً لما وعد به ولي العهد حين قال عنها، إنها: «خطة جريئة قابلة للتحقيق لأمّة طموح. إنها تعبر عن أهدافنا وآمالنا على المدى البعيد، وتستند إلى مكامن القوة والقدرات الفريدة لوطننا. وهي ترسم تطلعاتنا نحو مرحلة تنموية جديدة، غايتها إنشاء مجتمع نابض بالحياة، يستطيع فيه جميع المواطنين تحقيق أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم في اقتصاد وطني مزدهر».
الحق يقال: إن محمداً بن سلمان قد حقق إنجازاً مضاعفاً؛ ليس في الإيمان بالرؤية والقطيعة مع كل الأصوات التي كانت تضع العراقيل دون تحقيقها؛ وإنما في شيء مهم قلَّ ما يُلتفت إليه، وهو استخراج القوة الكامنة في أبناء المملكة وبناتها من جيل الألفية الشباب الذين كانوا أكثر من فهم لغته وتلقى طموحاته بإيمان كبير؛ معتبرين أنهم أمام معجزة حضارية لا يمكن التراجع عن تحقيقها، وأنهم أولى الناس بالمشاركة في ذلك، والسعي في تجسيده واقعاً يمارسون حياتهم اليومية من خلاله، ويقطفون ثماره التي ارتوت بالجهد والعرق والعزيمة والإصرار على التغيير. أما المتشككون، فقد تعامل معهم ولي العهد بصبر وأناة؛ فجمعهم وناقشهم، وجلس معهم طويلاً، وشمل ذلك الاقتصاديين والمفكرين وقادة الرأي والإعلاميين والعلماء؛ كل بحسب مجاله وتخصصه، فيما يشبه ورشة عمل كبرى للمجتمع السعودي للتباحث حول الرؤية، واستمع إلى شكوكهم وتحفظاتهم، وناقش معهم أسبابها، وطرح أمامهم بكل شفافية - مدعومة بالثقة والتفاؤل - مكنونات صدره وآماله، وما يرجوه لبلاده من عز وتمكين، وأن الأوان قد حان لسعودية جديدة تطرح عنها بعض أثقال الماضي، من دون أن تخرج عن ثوابتها وإرثها، أو تنسلخ من ماضيها الذي بناه الأجداد، ودعمه الآباء، وهو ما شكل قيمة مضافة على مخرجات «الرؤية» لاحقاً.
أعترف ثانية، وأنا أرى بلادي اليوم، سياسة واقتصاداً وعلى مستوى التحول الاجتماعي، أنني فرح ومندهش لما أراه وألمس آثاره، وما كنت لأصدقه لو لم أعشه واقعاً أشاهده رأي العين.
لقد وعد الأمير محمد بن سلمان فصدق وعده، وأخرس كل الأصوات المشككة؛ خصوصاً تلك الصادرة عن الإعلام الغربي الذي تحول، بعد توالي الإنجازات، إلى صمت الخرائب وهمس القبور... وهو يرى يوماً بعد يوم تحقُّق مخرجات الرؤية التي تم الإعلان عنها؛ من اكتتاب «أرامكو»، إلى تحولات ملف المرأة وحقوقها التي قفزت في ملف تمكينها لتحقق في خمس سنوات ما لم يحدث للمرأة السعودية خلال خمسين عاماً، كما شملت تلك الإنجازات أسلوب الحياة العصرية، لا سيما في مجالات الثقافة، ناهيك عن الفنون والرياضة؛ وصولاً إلى احتياجات الأجيال الجديدة من الشباب المتصلة بالترفيه والمبادرات المتصلة بالمستقبل، وآخرها ما تم الإعلان عنه في مجال السياحة. ولو شئتُ أن أعدد ما تحتويه الرؤية من مشروعات، وما تحمله من آمال، وما تعد به من وجوه الخير والنماء لكل أطياف المجتمع، لأجهدني الحصر، ولعل فيما ألمحت إليه ما ينبئ عن طبيعة الرؤية؛ لكنَّ أخطرها - في رأيي - أمران: أولهما: وعدُ ولي العهد منذ سنوات مضت بالقطيعة الكاملة مع مصادر الفساد وخطابات التطرف والفكر الإرهابي، وقد تحقق ذلك كله؛ فلا يستطيع اليوم فاسد أو متطرف أن ينام قرير العين، كما توسعت مساحة التسامح ورقعة الاعتدال على كل المستويات. وثانيهما: إطلاق توطين التصنيع العسكري؛ فلا يغيب عن بال مراقب للأوضاع في شرقنا الأوسط ما يمثله ذلك في موازين القوى في خضم الصراعات الناشبة اليوم. ولا يعني حديثي تحبيذ الحروب أو الدعوة إليها، وإنما يعني أنك لا تستطيع أن تجعل العالم يحترم وجهة نظرك دون الاتكاء على قوة تحمي وجهة النظر تلك.
إن إنجاز الرؤية وتحقُّق الوعود خلال السنوات الخمس التي مضت، والقادم أجمل، لم يمر دون أن تتخلله تحديات وصعوبات شاقة؛ من حرب دعم الشرعية في اليمن، إلى تبعات جائحة «كورونا» والتفوق المذهل الذي حققته المملكة في إدارة الأزمة؛ وصولاً إلى المؤامرات الإقليمية والدولية التي تريد لقطار الرؤية أن يتعثر، ولنهضة السعودية الجديدة أن تتوقف، ولكنَّ الله غالب على أمره، وسوف تمضي المملكة في طريقها بفضل القيادة الطموح والحكم الرشيد.