مع إلقاء الرئيس الروسي بوتين خطابه السنوي عن حالة الأمة، مؤخراً، وإشادته بالأطباء الأبطال والباحثين بمجال اللقاحات وتعهده بتشديد التنظيمات البيئية، بدا المشهد كله كأنه رحلة إلى عالم موازٍ. ورغم حقيقة أن الخطابات المحلية لبوتين غالباً ما تكون جوفاء في الجزء الأكبر منها، فإن الرسالة التي وجّهها إلى الغرب سلّطت الضوء على الاختلاف الراديكالي بين التوجه الذي ينتهجه عمّا اتّبعه أسلافه السوفيات.
في عالم بوتين، تظهر روسيا كدولة متقدمة في طريقها نحو التغلب على جائحة فيروس «كوفيد - 19» وتحاول إيجاد حل لقضايا اجتماعية واقتصادية حتمية، لكنها ليست على درجة كبيرة من الخطورة. في المقابل، نجد أنه في عالم آخر، الدائرة المحيطة ببوتين، كانت القوات الروسية تحتشد على الحدود الأوكرانية. ودعت قيادات أوروبية وأميركية إلى نزع التصعيد، لكنّ دعواتهم لم تلقَ سوى التجاهل.
من ناحيتها، كانت الولايات المتحدة قد صعدت للتوّ العقوبات المفروضة ضد روسيا. وألقت جمهورية التشيك لتوّها اللوم على ضباط استخبارات روس في انفجار مستودع للذخيرة وقع عام 2014 وأسفر عن مقتل شخصين. وعليه، قررت طرد 18 دبلوماسياً روسياً من السفارة في براغ.
أما المعارضة الروسية الممزقة، والتي يجري تصنيفها رسمياً من جانب الحكومة بوصفها «عملاء أجانب»، فتواجه إجراءات احتجاز استباقية ووجوداً مكثفاً من قوات شرطة مكافحة الشغب في وقت تحاول المعارضة تنظيم مسيرات لدعم زعيمها المسجون والذي أعلن إضرابه عن الطعام.
وتوقفت معدلات توزيع اللقاح على المواطنين الروس عند معدل 4.3%، تبعاً لبيانات جمعتها وكالة «بلومبرغ»، ما يكافئ نحو 13% من المعدل المناظر داخل الولايات المتحدة. في فبراير (شباط)، آخر شهر تتوافر بخصوصه إحصاءات رسمية، توفي 24.369 ألف بسبب فيروس «كوفيد - 19»، لكن عدد الوفيات الإضافية مقارنة بفبراير 2020 بلغ 29.493 ألف، الأمر الذي يوحي باستمرار جهود التعتيم على معدلات الوفيات الحقيقية بسبب الجائحة.
جدير بالذكر أن الزعماء المخضرمين مثل بوتين غالباً ما يملكون ما يطلق عليه «مجال تشويه للواقع» قوياً -مصطلح أُطلق للمرة الأولى على شخصية ديكتاتورية أخرى، لكن أكثر لطفاً، مؤسس «أبل إنك»، ستيف جوبز. ومع هذا، نجد أن بوتين في الواقع لا يصوغ تصورات متخيلة -ليس من أجل العالم، ولا حتى من أجل بلده، الذي أصبح في هذا العصر قادراً على الوصول إلى مزيد من المصادر تتجاوز القنوات الدعائية التابعة للدولة. اليوم، بمقدور الناس رؤية ما يجري بوضوح، بينما بوتين من جهته تجاوز المرحلة التي أصبح فيها بحاجة حتى للإنكار غير المنطقي للواقع على الأرض، وذلك منذ أن حيّد الدستور، العام الماضي، ليجعل نفسه فعلياً رئيساً مدى الحياة.
اليوم، لم تعد هناك أوراق توت تستر نزعاته، وعزمه على القضاء على تهديد أليكسي نافالني ومنظمته بغضّ النظر عما يحلّ بزعيم المعارضة أو فريق العمل المعاون له، وكذلك إيمانه بقدرته على محو الجائحة بمجرد الأماني والتمنيات، وغضبه من وجود أوكرانيا في حد ذاتها كدولة مستقلة، وتوجهه القائم على الصدام الصريح إزاء الولايات المتحدة واحتقاره لدول غربية أخرى بوصفها مجرد أصوات في كورس تقوده الولايات المتحدة.
وعليه، فإن الخرافات التي سردها بوتين أمام جمهور يدرك جيداً وجود أجندة أخرى مختلفة تماماً تتعلق بالعالم الواقعي، كانت جزءاً من رسالة حرص على صياغتها بدقة لتحقيق هدف محدد.
في ثنايا خطابه، أكد بوتين أنه: «لدينا -وأنا مضطر لقول ذلك- ما يكفي من الصبر والشعور بالمسؤولية والاحترافية والحصافة والثقة بأنفسنا وبحقنا في اتخاذ أي قرارات. إلا أنني أتمنى ألا يخطر ببال أحد أن يتجاوز الخطر الأحمر فيما يخص روسيا. عند هذا الخط، سنقرر بمحض إرادتنا ما نرغبه في كل قضية».
في الواقع، يتجاوز هذا الخطاب النبرة المتباهية المغرورة التي اعتاد جميع زعماء روسيا استخدامها، بمن فيهم بوتين، وإنما يأتي ما سبق بمثابة إعلان موجّه إلى العالم بأن بوتين وحده هو مَن سيتخذ القرارات المهمة ويحدد خطوطه الحمراء. ولا يبدي بوتين استعداده لمناقشة ما يعدّه شؤونه مع أي شخص آخر، خصوصاً الأجانب. ورغم كل الحديث عن حسن النيات والسلوك المتحلي بالشعور بالمسؤولية، فإن هذا يعد بمثابة إعلان عن تعمد اتّباع سياسة تقوم على الخطوات التي يتعذر التكهن بها. ويبدو هذا استجابة ساخرة تجاه رغبة الرئيس الأميركي جو بايدن المعلنة في الإبقاء على «علاقة مستقرة ويمكن التنبؤ بمساراتها» مع روسيا.
والتساؤل هنا: ما الذي يقوّي شوكة بوتين ويمكّنه من أن يقف أمام العالم ويخبره بأن عليه الانتظار لقراراته بينما يتولى هو تحريك خطوطه الحمراء من مكان لآخر؟ الملاحَظ أن بوتين يبدو أكثر وضوحاً بكثير عمّا أبداه أسلافه السوفيات من تجاهل لآراء الغرب بخصوص كل شيء، من الأمن العالمي إلى حقوق الإنسان.
ومن أجل مقارنة الوضع الراهن بما كان عليه الحال في السبعينات والثمانينات، الفترة التي صاغت رؤية بوتين العالمية ونظرته لدور بلاده على الساحة العالمية، تمكنكم متابعة تغريدات المؤرخ المعنيّ بحقبة الحرب الباردة، سيرغي رادشينكو، البروفسور بجامعة «كارديف» والذي جعل من عقد المقارنات بين نظام الاتحاد السوفياتي ونظام بوتين الحالي تخصصاً دقيقاً له. وتبعاً لما أوضحه رادشينكو في وقت قريب، فإنه عام 1981 عندما كان المكتب السياسي يناقش كيفية التعامل مع «حركة تضامن» في بولندا، عارض يوري أندروبوف، الذي سرعان ما خلف ليونيد بريجنيف كزعيم للاتحاد السوفياتي، بشدة فكرة الغزو العسكري خوفاً من إثارة غضب الغرب الرأسمالي ضد الاتحاد السوفياتي في صورة عقوبات اقتصادية وسياسية، الأمر الذي سيُلحق الضعف بمكانة الاتحاد السوفياتي على الساحة العالمية. وكانت بولندا في ذلك الوقت على قدر من الأهمية لما أُطلق عليه «المعسكر الاشتراكي» آنذاك يكافئ أهمية أوكرانيا اليوم لـ«العالم الروسي».
ومع هذا، وفي وجه الإجراءات المضادة المحتملة من جانب الغرب، أبدى أندروبوف، الذي كان رئيس بوتين آنذاك داخل «كيه جي بي»، استعداده للسماح لبولندا بالمضي قدماً فيما بدا أنه (وتحول بالفعل في وقت لاحق إلى) بداية ثورة مناهضة للشيوعية.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الاتحاد السوفياتي كان قد تجاوز قبل ذلك بعامين خطاً أحمر بالفعل بغزوه أفغانستان، ولم يكن على استعداد لمضاعفة خروقاته. في المقابل، نجد أن بوتين اليوم وبعد مرور سبع سنوات على غزو القرم، يطلق إشارات قوية توحي بأنه على استعداد لفعل ذلك.
بطبيعة الحال، كان الاتحاد السوفياتي كياناً بالغ الضخامة بقدمين واهنتين في الثمانينات، وذلك مع تراجع أسعار الطاقة وتشرذم الاقتصاد المخطط له وتحوله لحالة من الفوضى تعمّها السرقة وأزمات نقص السلع وغياب عام للشعور بالمسؤولية.
في المقابل، نجد روسيا اليوم، ورغم استمرار اعتمادها على صادرات الطاقة، تجري إدارتها على نحو أكثر كفاءة بكثير، وبذلت الحكومة التكنوقراط المعاونة لبوتين جهوداً كبرى للاستعداد لأسوأ التداعيات الممكنة حال اشتعال حرب باردة أخرى.
علاوة على ذلك، فإن روسيا أصغر من الاتحاد السوفياتي، وبالتالي فهي غير مجبرة على محاولة دعم والحفاظ على تماسك إمبراطورية مترامية الأطراف. كما أن الروس لا يشعرون بالسوء والفقر الذي شعروا به في ثمانينات القرن الماضي، ولا يشعرون بأنهم فقراء على نحو مهين ومذلٍّ مقارنةً بمواطني العالم الغربي. والواضح أن أعمال القمع نجحت في مواجهة فلول المعارضة الروسية، ذلك أن مظاهرات الأسبوع الماضي جاءت ضعيفة للغاية على نحو يَحول دون النظر إليها بجدية.
ومع ذلك، لا يوفر أي مما سبق سبباً مقنعاً لسلوك بوتين في مواجهة الغرب. في الواقع يتمثل أساس الرهان الذي يقدم عليه بوتين حالياً في أن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، منهمك للغاية في التعامل مع مشكلاته الداخلية على نحو يَحول دون إمكانية إقدامه على تضحيات حقيقية لكبح جماح بوتين.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»