حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

الصحة النفسية: القنبلة الصامتة!

أنتوني بودين، كان أحد أكبر المشاهير المعروفين حول العالم وأنجحهم، فهو طاهٍ محترف وكاتب صحافي له مقالات تُنشر في كبرى الصحف والمجلات في الغرب، ولديه أيضاً سلسلة مهمة جداً من الكتب الأكثر مبيعاً، التي تمّت ترجمتها إلى لغات عديدة ومختلفة. كذلك هو أيضاً مقدم لبرنامج تلفزيوني سياحي ناجح جداً بثّته القناة الإخبارية العالمية الأشهر «سي إن إن» عن الطعام والطهي وثقافة الشعوب وأحوال الناس، الأمر الذي مكّنه من السفر حول العالم والإقامة في أجمل الفنادق والمنتجعات في أروع البلدان والتعرف على أبهى الأماكن ومقابلة ألطف الناس ومصادقة المشاهير في المجالات كافة، وتذوُّق ما لذّ وطاب من المأكل والمشرب والتمتع بمشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة.
كان الرجل يتمتع بقبول طبيعي فنال محبة الناس بمختلف ثقافتهم وخلفياتهم ولغاتهم، ودخل قلوبهم وحقق مجداً مهنياً هائلاً بمداخيل مادية كبيرة مكّنته من العيش بشكل مريح جداً. كان الرجل سعيداً وبصحة مثالية وهو في بدايات الستينات من عمره ويشبه نجوم السينما الهوليوودية في شكله وهندامه. كان باختصار يعيش الحياة المثالية التي يحلم بها الكثيرون من الناس حول العالم، ويعتقدون أن الرجل هو أسعد البشر بلا جدال أو نقاش. ولذلك كان الخبر الذي أعلنته وسائل الإعلام العالمية في اليوم الثامن من شهر يونيو (حزيران) عام 2018 عن العثور على جثة أنتوني بودين في جناح بفندق «لو شامبارد» الفخم في الريف الفرنسي بعد أن أقدم على الانتحار وذلك بشنق نفسه... كان الخبر مفزعاً وصادماً لكل من عرف الرجل. فلم يكن للرجل خلافات أو عداوات مع أحد، ولم تكن لديه أي مشكلات مالية، ولم تكن عنده أي مشكلات صحية، وبموته أُعيد تسليط الضوء وبقوة على الصحة النفسية، بعد أن رجحت المصادر الطبية والاستنتاجات التي خرجت بها التحقيقات الأمنية أن انتحار أنتوني بودين كان بسبب اكتئاب حاد أصابه.
واليوم ومع الوضع المخيف والمقلق الناتج عن تفشي جائحة «كوفيد - 19»، وتبعات ذلك من الانقلابات الكبرى في أنماط وطرق وأساليب العيش الطبيعية وتداعيات الأوضاع الاقتصادية بشكل سلبي جداً، مما أنتج إحساساً مخيفاً بعدم التوازن وفقدان الشعور تماماً بالأمان والاستقرار، لم يكن غريباً ولا مفاجئاً الصعود الدرامي الكبير والمرعب في أعداد المصابين بالأمراض النفسية بمختلف أشكالها خلال فترة الجائحة. فلقد تعددت الاضطرابات النفسية التي نتجت عن تفشي الجائحة، بدءاً من اضطرابات النوم والتبول اللاإرادي، وصولاً إلى القلق المزمن والاكتئاب العميق. وخطورة الحالة الأخيرة، أي الاكتئاب العميق، هي أنه لا يحمل أعراضاً ظاهرة ولكنها حالة تراكمية تتفاقم بالتدريج، وسماتها الأساسية التشاؤم والانعزال وفقدان الرغبة في الحياة.
الصحة النفسية لم تلقَ في عالمنا العربي الاحترام والجدارة التي تستحق، وكانت دوماً ما يُسخَر منها بطريقة ما، فالأعمال الدرامية تقدمها بأسلوب هزلي وساخر للغاية، ورجال الدين لم يقوموا بتقديم حلول للتعامل مع هذه الحالات سوى تبرير أن الشخص المصاب «لبسه جني» مما فاقم الأزمة وزاد من حدتها خصوصاً في ظل عدم اعتراف المجتمعات العربية بشكل عام بأهمية وجدوى دراسة الطب النفسي.
لعل الطبيب العربي النفسي الأشهر هو الدكتور المصري يحيى الرخاوي، الذي وصف الحالة بدقة بقوله «إن الحياة الطبيعية للإنسان شقاء». ويضيف الطبيب النفسي المصري المشهور محذراً من خطورة الاكتئاب بقوله: «إن الاكتئاب أكثر ألماً من مرض السرطان، ويزيد من احتمالات الوفاة مع الأمراض العضوية».
المصابون بالاكتئاب، وهم كثر حولنا، يصرخون في صمت ويتألمون بصمت ويسخرون من الوصفات السطحية التي يقدمها الناس لهم، لأن الألم كبير وعميق جداً ولا أحد يسمع صرختهم أو استغاثتهم. معدلات الانتحار تزداد بشكل مرعب ومخيف في العالم العربي، وهو الموضوع المخجل الذي بقي الناس يتجنبونه ويتحاشون مواجهته، ولا يقْدمون على التحدث عنه، وأصبح بالتالي أشبه بالسر القذر الذي يتحتم على الجميع إنكاره.
بلغت معدلات الانتحار في العالم العربي ألفي حالة يومياً، مقابل ثلاثة آلاف حالة يومياً في أوروبا، وهذه الأرقام كانت قبل تفشي الجائحة المدمرة، ولكم فقط تخيل المعدلات الجديدة التي تختفي أمام سيطرة الاهتمام بمصابي «كورونا» بشكل حصري وأساسي.
الصحة النفسية وتداعياتها السلبية هي أشبه بقنبلة موقوتة متى ما انفجرت فستصيب شظاياها الجميع من دون استثناء.