أحتمل أنَّ غالب القراء الأعزاء قد اطلع على كتاب جون ستيورات ميل «حول الحرية» أو ربما سمع به وعرف محتواه. ولذا لا أنوي تكرار الكلام عنه وعن كاتبه، سوى الإشارة إلى أنَّ جانباً مهماً من الكتاب، استهدف الردَّ على إشكالات كانت مثارة في منتصف القرن التاسع عشر، حول مفهوم الحرية وتطبيقاتها، وأبرزها اثنان:
- أنَّ إطلاق الحرية لغير الناضجين أو غير المهذبين، قد يحولها إلى مبرر للفساد الأخلاقي وتخريب المجتمع، أو العدوان على الأعراف والقيم الناظمة لحياة الجماعة.
- الحرية تتعارض مع مفهوم المسؤولية المشتركة؛ حيث كل شخص مسؤول عن المجتمع، ويتحمل جزءاً من عبء الحياة المشتركة. إذا بات الناس أحراراً، فإنَّ كثيراً منهم لن يلتزموا بالقانون، ولن يحترموا الأعراف، وستصبح الحياة عسيرة على أولئك الذين يودون الالتزام بما ورثوه، من قيم وعادات وطرق معيشة.
إذا تأملت في هذه الاعتراضات، فقد ترى أنَّها ذاتها التي يكررها معارضو الحرية، في المجتمع العربي في هذا الزمان. تذكر أنَّ الكتاب الذي نتحدث عنه طبع في 1859. أي قبل 162 سنة بالتمام والكمال.
لعلَّ قارئاً يعترض قائلاً؛ إنَّ تكرار النقاش بعد مرور هذه المدة الطويلة، دليل على أنَّ المشكلة ما تزال عصية على الحل. أي بعبارة أخرى؛ أنَّ الأمر لا يستدعي تبكيت قومنا، لأنَّهم يناقشون قضايا، طرقها غيرهم قبل قرن ونصف قرن.
إني أتفق تماماً مع هذا القول. فالإنصاف يقتضي الإقرار بأنَّ القضايا المرتبطة بالحرية وتطبيقاتها، لا تزال مورد جدل بين الفلاسفة والأكاديميين في العالم الغربي، وبين السياسيين وأهل الثقافة والناشطين في المجال الديني، فضلاً عن عامة الناس في المجتمعات الشرقية.
لكن من ناحية ثانية، لا بدَّ من القول إنَّ مستويات الموضوع مختلفة تماماً. فنقاشات العرب في مسألة الحرية ما زالت عند مستوياتها الابتدائية، من قبيل؛ هل الحرية ضرورة للحياة الإنسانية أم لا؟ وهل هي حق أصلي أم هي هبة المجتمع للفرد؟ وهل يجوز للدولة تقييدها مطلقاً أم لا؟ وهل تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؟... إلخ.
أقول؛ إنَّ هذا المستوى الابتدائي من النقاش، قد انتهى منه العالم الغربي قبل قرن أو يزيد. لكنه في مجتمعاتنا ما زال على هذا الحال. وكلما طرحت المسألة نهض أحدهم قائلاً؛ الحرية تؤدي إلى خراب الدين وخراب الدولة، فسكت الجميع خائفاً من الرد.
دعنا نستمع الآن إلى ما يقوله جون ستيوارت ميل عن مكانة الحرية، بالقياس إلى بقية القيم: «لو اجتمع البشر كلهم على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان من حقهم أن يسكتوه. وبالقدر نفسه فإنه ليس لهذا الفرد أن يسكت الناس، حتى لو امتلك القوة والسلطة أو اعتقد أن ما يراه هو الحق الكامل».
- ما الذي يحمل الفيلسوف على منح الحرية في التعبير هذا المقام الرفيع؟
دعنا نستمع إليه مرة ثانية، حين يقول: «إذا أسكتنا صوتاً، فربما نكون قد حجبنا الحقيقة. لعلَّ الرأي الذي نراه خاطئاً، يحمل في طياته بذور فكرة صائبة أو حقيقة خفيت علينا... انفراد شخص برأي لا يجعله خطأ، واتفاق الناس على رأي لا يجعله صحيحاً... إنَّ الرأي المتفق عليه مثل الرأي الفردي، لا يصحُّ ولا يقبل عند العقلاء، إلا إذا خضع للتجربة والتمحيص».
8:2 دقيقه
TT
في تمجيد الحرية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة