إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

شيريهان هي الإعلان

لا تعلك لباناً كبيراً لأنه سيخرج من أذنيك. هكذا كانت الأم تضحك على طفلها في أيامنا. أما هذه الأيام، فقد زادت إعلانات التلفزيون في الشهر الكريم حتى خرجت من الأنوف والآذان. نزل نجوم السينما بكل ثقلهم وبهرجهم، ومعهم أبطال الرياضة وكتاب الأغاني ومصممو الأزياء والملحنون والمخرجون. الهدف هو جيبك. بيعك سلعة.
رأى المشاهد طبقاً دواراً يجمع كل أنواع الحلويات، المعتق منها وما خرج من الفرن تواً. يسرا ونانسي وليلى وروبي وإسعاد وإيمي ونيكول وميريام وأمينة ونيللي وياسمين. ما شاء الله. كلهن في كفة وشيريهان في كفة. أثار ظهورها على الشاشة زوابع التعليقات. كانت متوارية منذ نحو عقدين. أما الأخريات فموجودات في حنفيات القنوات سيلاً لا ينقطع، متوافرات تمثيلاً ورقصاً وغناء وبرامج.
شيريهان هي الترجمة الدقيقة لمعنى القوة الناعمة. أطلت فمسحت ما فات من غياب. أنعشت الذاكرة وأعادت تصفير العداد. عرفها الجمهور العربي طفلة لهلوبة تفيض شقاوة، وها هو يجدها امرأة جبارة ذات ماض أثقل من وزنها. قديرة في استعراضها. أنيقة في حركاتها ولفتاتها. تنثر أزاهير الأمل في زمن الموت بدون مآتم وسرادقات. فنانة تبشر بالجمال والمثابرة وعشق الحياة. انتصرت على المواجع وهي تبتسم. هل من منافس؟
أتذكرها حين جاءت إلى باريس لترميم ظهرها وعظامها. رقدت مثل دمية مكسورة على سرير مستشفى لا يعرفها فيه أحد. لم تصدق الممرضات الفرنسيات أن هذه البنت السمراء ضئيلة القامة هي نجمة شهيرة عندنا. وجه المرض لا يشبه ملصقات الأفلام. لا باروكات ورموش وكحل وأبيض وأحمر. أما الزائرون القلائل الذين يعرفونها فكانوا يرون فيها ملامح فرحانة، البنت القروية التي عبث بها حارس المعبد في «الطوق والأسورة». أو صورة سلمى في «عرق البلح»، الصعيدية التي سبحت في البركة وحجلت مثل يمامة وغنت «بيبة جاب لي طبق... بيبة مليان نبق».
تقمطت شيريهان بالفن منذ طفولتها. وفي أرشيف المصور ممدوح إبراهيم لقطة لها وهي دون الخامسة، تتحزم وترقص على المائدة أمام أم كلثوم. كبرت البنت ونطت بحبل طرزان إلى المسرح والشاشة وفوازير التلفزيون. لاعبة سيرك أكلت الجو غناء ورقصاً وبهجة، وغيرها يأكل الجو سماجة. قامتها صغيرة تأتي بالأعاجيب، لينة مطواع كأنها خالية من العظام. جسد تآمر عليه المرض ونفوس مريضة. لا أحد يعرف كيف صدر القرار بتأديبها. هل تعرفون السنابل التي تنحني تحت عجلات دبابة ثم تستقيم واقفة بعد مرورها؟ هكذا هي شيريهان. لذلك فإنها كانت تطالب بحقين يوم نزلت تتظاهر في ميدان التحرير: حق عام وحق شخصي.
يقوم فن الإعلان التلفزيوني على الومضة. كلمة ورد غطاها. تكلف ثانية البث آلاف الدولارات في العالم. جاءوا بجورج كلوني ودفعوا له الملايين ليظهر في إعلان عن نوع من القهوة. قال كلمتين ومشى. أما عندنا فإن الرسالة الإعلانية تستطيل وتتمطى وتتثاءب وتتمدد وتفرد قدميها خارج لحافها. لا نعرف هل هو ترويج لسلعة أم أغنية مصورة. لكن سحر شيريهان انقلب على الإعلان الذي ظهرت فيه. كانت أغنيتها هي الرسالة المنتظرة. «القلب الطاير المتشعبط بالحياة». إنسانة أسعدت الناس فأحبوها. أما الترويج والتسويق والبضاعة والصفقات والعمولات وتجار الهيكل فليست سوى قشور.