ديفيد ليونهارت
TT

بايدن لا ينام بسبب الصين

النظام الدولي الذي نعرفه اليوم تشكل بعد مرحلة طويلة من الإنهاك الديني خلال حرب الثلاثين عاماً الشهيرة بين الكاثوليك والبروتستانت.
لقد خلص الفرقاء إلى أنه لا أحد منتصراً في الحروب الدينية، ولا يمكن لأي ازدهار اقتصادي أن يستمر، والمتطرفون الدينيون يتبادلون الغزوات. من هنا وقعت معاهدة وستفاليا في عام 1648 التي شكلت البذرة أو التصميم البدائي لأوروبا الحديثة، الذي كبر لاحقاً، ليكون الهيكل الأساسي للنظام الدولي. أهم مبادئ هذه المعاهدة هي ما يمارس اليوم. لا تعدي على سيادة الدول ولا يفرض عليها دين بالإكراه حقناً للدماء من الطوائف المتناحرة، ونبعت حينها فكرة الولاء القومي للأفراد داخل حدود جغرافية معينة، وشهدنا أول بذور العلمانية بفصل الدولة عن الكنيسة، ويحق للدول أن تختار نظامها السياسي والاقتصادي، من دون تدخل ومضايقة من قوى خارجية. أي شيءٍ يحقن الدماء ويحمي حدود الدول ويلجم المتطرفين مرحب به.
ولكن كان هناك أعداء لهذا النظام منذ البداية، وكان أبرزهم روسيا في ذلك الوقت؛ بحجة أن المعاهدة تخدم المصالح الغربية، وتُشكل المستقبل على صورتها. ولكن القوى الغربية استطاعت أن تحافظ على هذه الحزمة من التعاليم السياسية وتوسعها وتنشرها، فقدت لعبت بريطانيا العظمى القوة الأساسية التي أسهمت في حمايتها، وبعد تراجع قوتها لعبت الولايات المتحدة دور البديل منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم. لقد أصبح يطلق عليها النظام الأميركي، وليس الليبرالي فقط.
ولكن هذا النظام يمر، ربما لأول مرة، بتهديد حقيقي مع صعود الصين وتوقيعها الاتفاق الأخير مع إيران. وعندما سُئل الرئيس الأميركي بايدن مؤخراً عن رأيه في هذه الخطوة، قال إنه كان قلقاً منها لسنوات. إن مصدر قلقه هو في تحدي الصينيين العلني مؤخراً للنظام الأميركي المترسخ في المنطقة؛ حيث انتقده وزير الخارجية الصيني بالقول إن النظام الدولي قائم على القواعد الأميركية.
نرى الآن بوادر للصدام الذي حذر منه وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر الذي قال إن أكبر تحدٍ لأي رئيس أميركي هو عدم الدخول في حرب عسكرية مع بكين، ولكن في ذات الوقت تحجيم نفوذها وإدخالها في النظام الدولي الذي صممه الأوروبيون والأميركيون قبل مئات السنوات. الصينيون من جهة أخرى يسعون لأن يصمموا النظام الدولي الخاص بهم.
ولو عدنا للتاريخ فإن قصة إدارة الرئيس نيكسون مع الصين هي قصة مثالية عن كيف تدار الصراعات الدولية على مستويات عالية. لقد قررت واشنطن حينها أن تتقارب مع الصين والاتحاد السوفياتي بحيث لا يتحالفان ضدها. لقد فهمت أن تحالف قوتين مؤثرتين سيضر حتماً بمصالحها ويحجّم نفوذها، لهذا فالتقارب مع الصين في البداية أشعر الاتحاد السوفياتي بالعزلة، لذا سعى لخلق علاقة متوازنة مع الأميركيين وهذا ما حدث، إذ دخل العالم من حينها، من السبعينات من القرن الماضي، في حالة من التوازن ومرحلة طويلة من الاستقرار، خلت من الحروب والصدامات، ما شجع على ازدهار اقتصادي غير مسبوق، ودخلنا في عصر العولمة وما بعدها.
ولكن الآن ربما نشهد مرحلة جديدة على المسرح الدولي وطريقة تعاطٍ جديدة مع إدارة بايدن لهذه الملفات، حتى لرؤية أميركا نفسها وعلاقتها مع حلفائها التقليديين وعلاقتها السيئة مع الروس (ساءت أكثر بعد وصف بايدن لبوتين بالقاتل)، وكذلك الصينيون، حيث دخل وزيرا خارجية أميركا والصين في فصل متبادل من التوبيخ أمام الكاميرات.
كيف ستتصرف إدارة بايدن مع كل هذه الإشكاليات المقلقة التي تسرق النوم من الرئيس؟
يجوز القول إن هناك أكثر من خط داخل الإدارة في رؤيتها الدولية والاستراتيجية؛ الأول هو ما يمثله الرئيس بايدن، وهو مؤمن لدرجة الوعظ بالتحالف مع أوروبا والمحافظة على نظام ليبرالي حر تزدهر فيه القوة الأميركية بلا منازع، ولكنه يعيش تحت ضغوطات حزبية يسارية وشعبية كبيرة معارضة للسياسة الخارجية القديمة، وتريد من بايدن أن ينتقم من روسيا بسبب التدخل في الانتخابات (وهذا خلف سبب وصف القاتل... لإرضاء الجماهير الحزبية المحتقنة، ولكن سياسياً لا تحقق أي منافع). لو انتصر بايدن الدولي فسوف نشهد مواجهة قادمة مع الصين. وهناك خط آخر أيضاً شائع وقوي داخل الحزب الديمقراطي والإدارة نفسها، يقول إننا نعيش ما بعد النظام الأميركي، وستنهض قوى، أبرزها الصين، للمشاركة في تحمل أعباء العالم، أي أن الشرطي الأميركي لا يكفي وحده، ومن الأفضل أن يساعد الشرطي الصيني في ضبط شؤون العالم. ولكن القوى العظمى عندنا تصعد، فتفرض شروطها، حتى قيمها على العالم، ولا تكتفي فقط بحصة قليلة من النفوذ السياسي والمكاسب الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه مراراً المسؤولون الصينيون في الفترة الماضية، وهو يعني بشكل ما تمزيق ورق المعاهدة القديمة التي وقّعها الأوروبيون قبل نصف قرن، من دون أن يكون للروس والصينيين أي رأي فيها.
هل هو انتقام تأخر موعده لأكثر من 500 عام؟ لا أحد يعرف الجواب حتى هذه اللحظة.
- المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»