زينة صوفان
مذيعة في اقتصاد الشرق مع «بلومبرغ»
TT

عام على جائحتنا... المجد لـ«كورونا» والموت للفيروس

انقضى عام أو أكثر على انفجار فقاعات الأنا على امتداد الكرة الأرضية، ووقف سكان الكوكب الأذكى عراة أمام المرآة، ليعيدوا تأمل تشوهاتهم ومبالغاتهم وطريقة عيشهم. لكن كتاب كورونا لم يكن فصلاً واحداً، وإن تداخلت واشتبكت وتصارعت أحداثه ومفاجآته وعقده. لكن المؤكد أن بعضاً من القناعات الراسخة تهاوت على صفحاته، فيما عاد الاعتبار لقيم أصيلة سيحكم التاريخ على استدامتها ويحكم تالياً على أهليتنا لهذه الحياة التي ثبت بالدليل القاطع أنها تكبرنا بكثير.
في الفصل الأول حل المرض، فانهارت الجغرافيا وتوقفت الحياة. أيقظت الصدمة فينا غريزة البقاء، نفضنا الغبار والصدأ عن أجنحتنا وفتحناها لحماية من نحب. رمينا جداول أعمالنا، وتذاكر سفرنا، وكراريس أبنائنا جانباً. أغلقنا كل الأبواب وشرعنا نبحث عن مرجعيات جديدة تخطط لنا القادم من أيامنا.
تراجعت فرديتنا إلى الخطوط الخلفية ورسم لنا أولو الأمر حدود الحركة ووجهتها، وكان لا بد من فصل العزلة. وكان لا بد للحياة أن تستمر رغم العزلة، تلك التي اتسعت في خضمها عوالم وضاقت أخرى.
عالم التجارة الواسع تقطعت أوصاله وتعطلت سلاسل الإمداد، وعرفت المجتمعات أن الاستيراد وحده يصنع اقتصادات هشة، وأن الأمن الغذائي يعلو ولا يعلى عليه.
ربضت الطائرات في المطارات، وأغلقت الفنادق أبوابها، وقلّصت الشركات المتضررة من الإغلاقات تعداد موظفيها. في عام 2020، خسر 114 مليون شخص أعمالهم، وفقاً لمنظمة العمل الدولية، ودفع الكثير منهم ثمن التخطيط المالي السيئ الذي لا يعير بالاً للادخار والاستثمار. هنا في منطقتنا، أظهر استطلاع في عز الجائحة أن 45 في المائة من المستطلعين في الإمارات لا يملكون أي مدخرات على الإطلاق!
أما نحن المحظوظين بعدم فقدان مصادر عيشنا، فقد فغرنا أفواهنا ونحن ندقق في مدخراتنا تتعاظم في خضم الجائحة... نحن الذين أقنعنا أنفسنا لزمن بعيد بأن لا محل للتبذير في حياتنا.
في فصل العزلة، تأملنا صور الأقمار الاصطناعية لغلافنا الجوي وقد استعاد بعضاً من رئتيه، وتساءلنا عن فرصة التوحد ضد التدمير الممنهج لبيئتنا وكوكبنا... تماماً كما اتحدنا لمحاربة الفيروس الخبيث.
لكن القيمة التي فتحت الجائحة أعيننا عليها لا تقتصر على الغذاء والمال والبصمة الكربونية. جلب لنا الابتكار البشري في أعلى تجلياته العالم إلى حضننا، فإذا بنا ننبذ قسراً محيطنا الاجتماعي الجغرافي وما كرسناه محيطاً «طبيعياً» لنا، ونختار عالماً افتراضياً لا يعير بالاً لخطوط الطول والعرض. صرنا نسهر أمام الشاشات مع الذين فرقتنا عنهم زحمة المطارات والوقت الضائع في إشارات المرور ونحن نتعجل الوصول إلى موعد مع غرباء نسينا الهدف الحقيقي منه.
في قعر عزلتنا أعدنا فتح قنوات مسدودة بين العقل والقلب والروح. وفي نهاراتنا، أعدنا خياطة القطب الفالتة في نسيج أسرنا، تعرفنا على أبنائنا وأعدنا رسم العلاقة بزوايا حجراتنا، أخرجنا من الأدراج عدة الطبخ وصواني الحلوى المخبوزة في دفء المنازل. وصرنا نبادر زملاءنا عبر الشاشات بسؤال حقيقي عن صحتهم وصحة أحبابهم. أعادت «كورونا» رسم صورتنا المتخيلة عن الآخرين فأنسنتهم في ضميرنا. كل الأحاديث المتصلبة أسالتها ضحكات الأطفال في خلفية المكالمات الجافة، ولأول مرة أصبح لسكان الأرض لغة واحدة.
وفي زمن الانغلاق، فتحنا أعيننا وقلوبنا على معاناة آخرين في أمكنة بعيدة ووجدنا أنفسنا نحيي كفاحهم ضد السلالات الجديدة والقديمة. صفقنا للطواقم الطبية حول العالم وشعرنا لأول مرة بمعنى الامتنان لحملة الواجب. نحن الذين بات جيشنا يتكون من نساء ورجال العلم والمعرفة.
أعادت «كورونا» ترتيب الأدوار المجتمعية خارج معادلات الجنس العتيقة. مكث رجال الأعمال مع أبنائهم في المنازل، وخرجت الطبيبات والممرضات إلى ساحة المعركة. جلس المهندسون والمهندسات في المنازل وخرج الإعلاميون والإعلاميات إلى الميدان. واكتشف الجميع - رجالاً ونساء - أن إدارة الأسر لا تقل صعوبة عن إدارة الشركات.
مضت الشهور ونحن نتنقل بين صدمة البدايات وأوهام النهايات، إلى أن فتح فصل اللقاحات. تعلقنا بمتابعة الأبحاث الجارية على امتداد مختبرات العالم. علا شأن المستثمرين في العلم في أذهاننا، وشعرنا بأن القوة الحقيقية للشعوب تكمن في قدرتها على الريادة في زمن الأزمات.
فصول «كورونا» ما زالت مفتوحة وإن كان الضوء يلوح في آخر النفق. لكن المتأمل بعمق يدرك أن النفق رغم ظلامه كان يزخر ببقع ضوء خارجة لا من أعماقه، بل من أعماقنا نحن.