فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

«كلوب هاوس» المثقف وأزمة الأثر المفقود

في عالم مزدحم بالتطبيقات، بالأجهزة اللوحية والكفّية، بالمنصات المتنوعة، تبدو صورة العلاقة بين المتحاورين قاتمة، وتصير الحالة التعاقدية بين الأطراف في التطبيقات مضطربة. المسافة كبيرة بين ما كانت عليه الحال قبل عقدين من الزمان حيث الإنترنت ببطئها والنقاش منحصر في المواقع بطيئة الحركة أيضاً، وبين الإنترنت اليوم حيث السكنى الأممية للتطبيقات الإلكترونية، وحين كانت الخصوصية موضع تقديس، والاختصار في الكلام علامة رقيّ، والاقتصاد في الظهور وتقنين الحضور ثيمة تأنُّق، باتت الساحة اليوم مفلوتة على مصراعيها؛ ثمة تزاحم عام على عرض الخصوصية بأقصى ما يمكن حدَّ الابتذال، والاستعراض الذاتي بلغ مرحلة لا تطاق.
الحديث اليوم عن نقلات نوعية هائلة تتجاوز ما يحدث في «سناب» أو «تويتر» أو «فيسبوك»، هذه تطبيقات توشك أن تكون قديمة أو «مملّة» على حد وصف الممنوع من عالم «السوشيال ميديا» دونالد ترمب، لكن كل تلك الصرعات يولَد بعدها ما يطمسها كالذي نشهده اليوم من موجة «تيك توك» أو «كلوب هاوس»، وهذا الأخير يمثل نقطة تحول في مجال التطبيقات الإلكترونية حسبما قرأت عنه وتجربة الذين خبروه، وأعني بالنقلة أن النقاش في حد ذاته تحول إلى نشاط ترفيهي.
تحتل «السوشيال ميديا» حيّزها من حياة الناس، باتت من الضرورات لا الحاجيات لدى شرائح كبرى في العالم. والتطور الذي تختطّه ليس تطوراً جزئياً بل لها نقلات نوعية وبأسلوبٍ متجاوز. ما انبهر به الناس في السابق يوشك أن يكون قديماً.. واليوم مع زحف «تيك توك» بكل خفّته يدخل على الخط التطبيق المثير للجدل «كلوب هاوس». ويمكن وضع ملاحظات أساسية حول هذا التطبيق:
معه تحول النقاش إلى ترفيه ومتعة، إذ لم يعد النقاش مرتبطاً بخطوط ممنهجة بغية الوصول إلى نتائج وصفقات ومقاربات وتوصيات، بل يستمر الحديث لساعاتٍ طوال بوصف الحديث في حد ذاته متعة، وحيث الانطلاق بوجهة النظر والتعبير عن الرأي ليست وسائل بل غايات، لذلك فإن التطبيق المزدحم بالثرثرة والنقاش فيه تجاوز من الترفيه بالاستمتاع بأحاديث الغير وتجاربهم ورحلاتهم إلى الاستمتاع التام بالتعبير عن الرأي في الغرف المغلقة؛ الغرق في التنظير للعالم حول كل الموضوعات من التفاصيل الصغيرة حتى أزمة المناخ العالمية.
ثم إن المثقفين وجدوها فرصة لإعادة بعث سلطتهم الهشّة، إذ تعرضت سلطة المثقف خلال السنوات القليلة الماضية لتحديات جمّة أضرب لها مثالين: الأول، أن السقف التنموي في الخليج تجاوز كل أحلام المثقفين وطموحاتهم القديمة والرتيبة، لأن السياسي أثبت بالتجربة الساطعة أنه الأقدر على إدارة مصالح الناس بمشاريع لا يعقلها معظم المثقفين، ومن جانبٍ آخر فإن الجيل الحالي المستهدَف بالرؤى والخطط التنموية لا يهتم بالنقاشات الثقافية، بصراعات الحداثة، أو ثرثرة المثقفين، أو اغتباطهم المطلق بندواتهم ومؤسساتهم، بل لديه تطلعات أخرى، ووجهات وسبل مختلفة عن تلك التي اختطّها المثقفون طوال العقود الماضية.
المثال الآخر، أن المثقف لم يعد لديه ما يقوله في «السوشيال ميديا» إلا ما يتعلق باليومي والعادي، وهذه من فضائل الرؤى السياسية؛ أنها فرّغت المثقف من مضمونه، فالمطالبات التي دوّخ المجتمع بها توشك أن تكون واقعاً بفضل القرار السياسي الشجاع، وليس بفضل ندوات المثقفين الرتيبة، لذلك فإن تجاوز السياسي لعقلية المثقف المحدودة، وتجاوز الجيل الحالي لمضمون المثقف القديم جعله يبحث عن منفذٍ يمكّنه من العودة، ومن التنظير على الآخرين، فبات «كلوب هاوس» هو الوسيلة التي ركبها بعض المثقفين من أجل استعادة ما تبقى من سلطته على الناس والآخرين.
الفراغ الذي يعاني منه المثقف جعله حاضراً في كل المنصات السوشيلية، بل إنْ هو كتب مقالة أو ظهر على الشاشة يباشر قصف الآخرين بمقالته، أو رابط برنامجه بكل الوسائل، يضع المقالة على «تويتر»، ثم يرسلها إلى مَن يعرف ومَن لا يعرف في التطبيقات الأخرى، ويكاد يستجوب ويستتيب مَن قرأ المقالة ومن تابع البرنامج مَن لم يفعل. من حسنات قوة الرؤى الاقتصادية في الخليج أنها أراحت المجتمع من السطوة الثقافية الخطيرة، ذلك أن المشاريع الثقافية هي مشاريع مجنونة، لذلك فإن نجاة السياسي بالمجتمع من المثقفين ضرورية لحماية الناس من أوهامهم وأحلامهم ومشاريعهم الكارثية.
«كلوب هاوس» بقدر ما وجد به المثقف بغيته للحديث، بقدر ما نفرح فعلياً لأنه سيعزلهم أكثر عن الواقع المعيش. لطالما راهنتُ على التغيير السياسي، لأنني أرى وظيفة المثقف محدودة بالوساطة المعرفية، أن ينتج معرفة مفيدة، أو يلخص كتاباً، أن يطرح تأملاته في موسيقى أو فيلم أو لوحة، أن يقرأ نصاً، أن يشرح نظرية أو يقرّب مفهوماً، لأن الحديث في الخليج عن التنمية من مثقفين فيه اعتداء على الرؤى الطموحة التي لا يفهمها معظم المثقفين ولا يدركونها، لذلك فإن مثل هذا التطبيق يمكنه أن يزيح عنّا ثقل المثقفين وإزعاجهم ليتجمهروا هناك وينظر بعضهم إلى بعض من دون أن يلوّثوا الأجيال الحالية بأوهامهم ولا أن يورّثوهم أحقادهم وأمراضهم.
هذه التطبيقات ستستمر بالتوالد، ومعها يتكشف العديد من الأزمات. مع تطبيق «كلوب هاوس» بانت رغبة المثقفين في إعادة سلطتهم المفقودة بعد تجاوز الرؤى الاقتصادية لخطاباتهم، لكنها محاولة ستبوء بالفشل، لأن الإنسان لا يجري في ذات النهر مرتين.