أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قبل أمس، مواصلة المملكة لتطوير أنظمتها وتشريعاتها، وقيامها بمراجعة مشروعات أربعة أنظمة عدلية رئيسة؛ تمهيداً لإقرارها وإنفاذها، وهي: مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات.
وكمحامٍ ممارس، أجده لزاماً عليّ في هذا المقام، أن أُشيد بدور وفكر ولي العهد في هذه المسيرة التطويرية النظامية الشاملة، فهو رجل قانون وبالتالي ليس بمستغرب أن يكون له فكرٌ ورؤية قانونية ثاقبة، تستهدف وتعطي الأولوية لمصالح بلاده وشعبه، ليس على المدى القريب فحسب، ولكن البعيد أيضاً. وليس هناك أهم ولا أعمق تأثيراً في هذه المساعي من إرساء قواعدها على نُظُمٍ شاملة ومُفصلة، تقوم على أُسسٍ مُستدامة وواضحة من الشريعة، وتُراعي مصالح المواطنين والمقيمين وما يُستجد من أحوالهم، وتتسم بالشفافية والوضوح والمساواة والاستقرار، لتُسهم، مع غيرها من التطورات التي تشهدها المملكة، في تعزيز وترسيخ مكانتها في مصاف الدول المتقدمة.
وقد جاءت هذه الإصلاحات مع التطورات والقفزات المتسارعة التي شهدتها المنظومة العدلية في المملكة خلال الفترة الوجيزة الماضية، لتُمثل تحولاً ونقلة نوعية تثبت للملأ أمرين على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية؛ أولهما: شمولية الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمانٍ ومكان وقابليتها للتطور ومعالجتها للنوازل والمستجدات المتغيرة. وثانيهما: أن المملكة العربية السعودية جادة في تنفيذ سياساتها الإصلاحية، التي تتخطى النواحي الاقتصادية والاجتماعية، لتشمل النواحي القضائية العدلية من خلال تطوير البيئة النظامية والتشريعية، بشكلٍ يُكسبها الاستدامة والمرونة والفاعلية، وفي نفس الوقت يضمن تنفيذ رؤية المملكة التنموية وخططها المرسومة.
ولعلي أعيد إلى الأذهان أن المسيرة الإصلاحية كانت قد بدأت، بالفعل، بعد انطلاق رؤية «المملكة 2030» التنموية الطموحة. حيث عملت وزارة العدل في المملكة على ترجمة العديد من أهداف هذه الرؤية المتعلقة بالجوانب التشريعية والعدلية الإجرائية، على أرض الواقع، ولم تدخر في ذلك جهداً أو وقتاً في سبيل الإصلاح والتطوير والارتقاء بالمنظومة العدلية.
وقد سبق لي أن تطرقتُ، في مقالة سابقة، إلى النقلة النوعية التي حققتها المملكة العربية السعودية في تطوير المنظومة العدلية وتحديثها، بما في ذلك نجاح التقاضي عن بُعد وإنجاز العديد من الأمور القانونية إلكترونياً، لا يسمح المقام بسردها في هذه المقالة. وأشرتُ في هذا الخصوص إلى التقرير الصادر عن وزارة العدل قبل سنتين، والذي لخصتْ فيه الوزارة كثيراً من الخطوات التطويرية التي تم تطبيقها، ثم أتى بعد ذلك قرار مجلس القضاء الذي ألغى الحكم بالشبهة، وكذلك إلغاء عقوبة الجلد في القضايا التعزيرية، ولا شك أن هذه الخطوات تُمثل تحولاً إيجابياً ونوعياً في مسيرة وتوجه القضاء السعودي.
لقد أكد الأمير محمد بن سلمان أن تطوير مشروعات هذه الأنظمة يتم في إطار نظام الحكم، والأنظمة والتشريعات في المملكة. ولا ينتابني الشك في أن هذه الإصلاحات سوف تكون ركيزة أساسية، تُسهم بشكلٍ فاعل مع ما سبقها، من تطويرٍ في أداء الجهاز العدلي، ومن إصدارٍ لأنظمة جوهرية، أو مراجعة وتحديث لأنظمة أخرى، بغية ترسيخ مبادئ العدالة والإنصاف والمساواة، وتعزيز ضمانات حقوق الأفراد، وتحقيق العدالة الناجزة، واختصار أمد التقاضي، وتوحيد الأحكام في القضايا المتشابهة، ومكافحة الفساد، وتعزيز النزاهة والشفافية، ورفع كفاءة الأجهزة العدلية والرقابية، على النحو الذي يضمن تحديد مسؤولية كل فرد، ويُحمّله إياها بوضوح.
ولا يمكننا، ونحن نتحدث عن هذه الإصلاحات، أن نغض الطرف عن أن تطوير الأنظمة المذكورة سيُتيح فرصاً كثيرة للأخذ بالعلوم الثابتة والمستقرة في بعض فروع الأنظمة التي يجري تطويرها، وبما استجد واستحدث فيها للاستفادة مما انتهى إليه الآخرون في هذا الخصوص، تحت مظلة أحكام الشريعة الإسلامية. وسيوفر هذا للمنظومة العدلية والتنظيمية والتشريعية مزيجاً متكاملاً من العلوم الشرعية والقانونية، ويوسع من نطاق المعارف والخبرات.
كما أن التطوير والتنويع النظامي، الذي أشرت إليه آنفاً، سينعكس على التوجهات القضائية، وعلى ما يصدر عن القضاء من أحكام، في ضوء ما استجد من أنظمة. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، أن نظام الأحوال الشخصية الذي يجري تطويره سوف يُسهم، في جانبٍ منه، في تمكين المرأة من حقوقها بصورة أكثر فاعلية من ذي قبل. والجميل هنا أن هذا كله يأتي في إطار الشريعة الإسلامية، ومتفقاً مع مقاصدها الحقوقية والإنسانية، فضلاً عن أنه يأتي مواكباً لمستجدات الحياة ومُتغيراتها، ليواكب بذلك الممارسات والمستجدات العدلية والنظامية المعمول بها في جميع أنحاء العالم.
لقد أكدت لي معرفتي الأكاديمية كمحامٍ مارس المحاماة في محاكم المملكة وغيرها من الدول، أن المنظومة العدلية في المملكة، مع ما شهدته من تطورات، في أمسّ الحاجة لهذه الإصلاحات التشريعية النظامية، ستكون عوناً للقضاة والمحامين والمترافعين، لإنجاز أعمالهم في إطارٍ مؤسسي منضبط يُعزز تحقيق العدالة.
وإذا كان لي من اقتراحٍ أختم به مقالتي هذه، فهو أنني أرى أن تُعرض مشروعات هذه الأنظمة، بعد اكتمال مسوداتها، على عامة المتخصصين والممارسين، لإبداء آرائهم واقتراحاتهم لتعزيز فاعليتها ومتانتها. فقد أثبت هذا النهج جدواه في الخارج، وفي حالاتٍ كثيرة في المملكة، إذ قدمت عدة وزارات في السابق مسودات أنظمة، على جهات عامة، عبر قنواتها الإلكترونية، مُستهدفة ذوي الاختصاص والعلاقة، وكانت النتيجة أن وصلت إليها مئات الأفكار والاقتراحات، التي لم تتردد الوزارة في الأخذ بالنافع والعملي منها لتطوير الأنظمة وإخراجها في الشكل المأمول.
- محامٍ دولي وكاتب سعودي
TT
السعودية: مسيرة تطويرية نظامية قضائية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة